وصفَ أديب إسحاق التسامحَ بأنه "كالحرية يشتاقها الإنسانُ مرؤوساً وينكرها رئيساً، وكالزهادة يقبلها سقيماً، وينبذها معافى سليماً. فلا يثبت على تغير الأحوال إلا عند ذوي النفوس الكريمة والطباع القويمة، وما هم بكثير".
هذا ما كتبه إسحاق قبل قرنٍ ونصف تقريباً وهو مما يُمكن
أن يُقال في كل زمان، فقد طالبَ بالحرية كثيرٌ من الناس عندما كانوا يُقمعون، ودعوا
إلى الزهد وهم لا يملكون شيئاً، وذموا التعصب والظلم والفساد وأشياء أخرى... وكل
ما فعلوه عندما أصبحت السلطةُ بأيديهم أنهم أخذوا صلاحيات الظالم والفاسد والمستبد،
فظلموا وأفسدوا وقمعوا وسرقوا بل زادوا عليه... إن كثيراً من الناس يدعون إلى التسامح وهم ضعفاء، ولا يفكرون به وهم أقوياء،
ويبقى المحك الحقيقي للتسامح في حال القوة والقدرة، عندما تكون قادراً على الفعل
ولا تفعل احتراماً لمبدأ التسامح. أما إذا لم تكنْ قادراً على الفعل فلستَ متسامحاً،
بل أنت عاجز.
أديب إسحاق (1856 - 1884) عمرٌ قصير وثقافة كبيرة، كاتبٌ
تنويري ليبرالي علماني وُلد في دمشق من عائلة أرمنية، أجاد لغاتٍ عدة، وتنقل بين
بيروت والقاهرة وباريس. عاش في زمن الدولة العثمانية التي حاولت الإصلاح في
سنواتها الأخيرة لكنها لم تنجح، وانتقل إلى مصر التي كانت فيها نهضة فكرية استقطبت
كثيرين من مثقفي الشام.
قيل إن أديب إسحاق رفض استقبال الكاهن قُبيلَ وفاته، وقد
زاد هذا الموقفُ غضبَ الكنيسة عليه، وكانت غاضبة عليه في حياته وبعد مماته. لقد أرادت
الكنيسة أن يقال إنه قد عاش ومات مسيحياً أو مؤمناً، وحتى لو كان مؤمناً بطريقة
خاصة فإنها لا تريدها بل تريد ما تحدده هي لا غيرها. وبعض المؤسسات الدينية ترغب
في أن يُشاع مثل هذا الكلام عن المشاهير من المفكرين والعلماء... وأحياناً يأتي
مدافعون عن الدين تبرعاً أو تكليفاً يروون قصصاً وأخباراً عن توبة فيلسوفٍ ملحد أو
ندمِ مفكرٍ علماني، يصدق بها المنتمون لأنهم أصلاً لا يسألون ولا يتحققون. ومما
يُروى أن الكنيسة كانت قد استولت على جميع مخطوطاته وأخفَتْها، ولم يظهر من
كتاباته إلا ما جَمعَه صديقه جرجس نحاس. أما ما كتبَه عن التسامح فقد جاء في خطبة
ألقاها في جمعية زهرة الآداب في عام 1874، تلك الجمعية التي كان رئيساً لها.
يتناول أديب إسحق في البداية تعريف المصطلحات ودلالاتها،
يقول عن التعصب والتساهل: "لقد جرى لفظ التعصب على ألسنة أهل الإنشاء العربي
بمعنى الغلو في الدين والرأي إلى حد التحامل على مَن خالفهما بشيء فيما يدين وما
يرى. وأجريتُ ها هنا لفظ التساهل بمعنى الاعتدال في المذهب والمعتقد على ضد ذلك
الغلو، متابعة للإفرنج في لفظهم المعبر عن هذا القصد (توليرانس)". وحالياً
تتُرجم هذه الكلمة بالتسامح، أما هو – وأمين الريحاني فيما بعد وآخرون - فقد اختار
كلمة التساهل ترجمةً لها، وبمرور الزمن أصبحت كلمة التسامح أكثر شيوعاً وانتشاراً،
وما عاد أحدٌ من الكتاب المعاصرين يستعمل كلمة التساهل.
لقد أدرك أديب إسحاق صعوبةَ الدلالة والمعنى، إذ قال: "ولا
أجهل أن هذينِ الحرفين – لفظ التعصب ولفظ التساهل – غير وافيين بالمراد منهما
اصطلاحاً، وأن في إيلاء الأول معنى الغلو في الدين والرأي توسعاً عظيماً. وفي
إشراب الثاني ضد ذلك المعنى خروجاً عن الحد اللغوي. ولكن للاصطلاح حكماً نافذاً
يسوق الألفاظ إلى المعنى الغريب فتنقاد. فإذا مرت عليها الأيام. وصقلتها الألسنة والأقلام.
جاءت منطبقة عليه بلا إبهام ولا ايهام".
ثم يفصل أكثر في حد التعصب، فالتعصب هو "غلو المرء
في اعتقاد الصحة بما يراه، وإغراقه في استنكار ما يكون على ضد ذلك الرأي"،
وهذا الإغراق والغلو يحمله على اقتياد الناس لرأيه بالقوة "ومنعهم من إظهار
ما يعتقدون، ذهاباً مع الهوى في ادعاء الكمال لنفسه وإثبات النقص لمخالفيه من سائر
الخلق". ولا يدعي إسحاق أن هذه تعريفاته، لأنه يُشير إلى مصادره العامة بقوله
"عند أهل الحكمة العصرية" أو "عندهم".
أما التساهل (التسامح) فهو أن يرضى المرء برأيه ويعتقد
الصحة فيه ويحترم آراء غيره "رجوعاً إلى معاملة الناس بما يريد أن يعاملوه.
فهو على إثباته الصواب لما يراه، لا يقطع بلزوم الخطأ في رأي سواه. وعلى رغبته في
تطرق رأيه للأذهان، لا يمنع الناس من إظهار ما يعتقدون".
يرى إسحاق أن مَن تبيَّن هذين التعريفين لا يشك في كثرة
مَن يراه من أهل التعصب وقلة من يمر به من المتساهلين. ويتعجب كيف يتعصب الناس
فيما يعتقدون وقد عجزت الأفهام عن إدراك كثير من أسرار الوجود، وامتناع الكمال على
الإنسان، وكان لهم في تعصب الأولين عبرة، لو كانوا يعتبرون. ثم يضرب أمثلة على
الأخطاء، ويستبعد الكلام على العقائد الدينية من بوذا وزرادشت وكونفوشيوس وإلى
سائر دعاة الدين، كي لا يُظن أنها هي المقصودة، فهو يشير الى تعاقب الوهم والحقيقة
والخطأ والصواب في قضايا العلم كي تكون عبرةً للمتعصبين. إنها أمثلة علمية من سكون
الأرض ودوران الشمس عليها والأقاليم السبعة وطب أبقراط وفلسفة أرسطو وتعبير ابن
سيرين... "فماذا تقول رمم الذين تعصبوا لهاته الأوهام على مَن كان في ريب
منها فألزموه الصمت والخسف، وعاملوه بالشدة والعنف، حرصاً على ما يتوهمون من الحق،
والحق بريء منهم لو يعلمون"؟
رأى إسحاق أنه لا تخلو حقبة من الزمان من التعصب في
الدين والرأي، لكن الفطرة الإنسانية فيها ما ينطبق على التساهل من كل الوجوه، وعلى
الرغم من قدم التعصب فهو طارئ على الإنسان، تولد عن مفاسد الرئاسة في الجماعات. ولا
يتكلم عن المفاسد والنوائب التي نشأت عن التعصب في الدين والرأي، ذلك أن تاريخ
الحروب والفتن والغارات يشهد على ذلك من بدايته إلى المئة الأخيرة في الغرب، وإلى
هذه الأيام في الشرق، ويقصد في القرن التاسع عشر. بل إن الغرب على الرغم من انتشار
العلوم فيه وحصول الحرية لأكثر ساكنيه، لم يَخلُ من ذلك. ويعدد ألوان العذاب التي
تعرض لها الناس من قبل، كما حدث للنصرانية في دولة الرومان، واليهود في إسبانيا،
ومن اتهم بالشك عند ديوان التفتيش، والبروتستنت. لكنه يرى أن التسامح في الغرب هو
في الهيئات أرسخ منه في الأفراد، ويستثني الذين تطهروا من أدران التقليد وسلموا من
علل الأوهام. ويذكر أمثلةً تأييداً لكلامه، ويستغرب من التحامل على اليهود وغيرهم
في بلدان أوربية، "وإلا فما هذا الذي نراه من التحامل على بقايا آل إسرائيل
في بلاد الروس والألمان. وما ذا الذي نسمع به الآن من الخلاف والشقاق بين الشيع
المتباينة في فرنسا وإيطاليا وبلجيكا وغيرها من أعرق البلاد في التساهل والحرية"؟
فالتسامح إذن موجود في الهيئات، وهذا لا ينفي وجود
التعصب عند الأفراد. ويقص علينا قصةَ فتنةٍ حدثت - في زمانه - في بلد منسوليمين
بوطن الفرنسيس عن عمال وأصحاب العمل الذين كانوا يحاسبون العمال إذا ما رأوا عندهم
فتوراً في العبادة أو ضعفاً في العقيدة، وذلك بالغرامة والطرد، ويشمل هذا حتى
المشيعين الذين يشيعون أحدَهم إذا مات، "وهم هم في البلد الذي افتدى أهله
بدمائهم حرية السعي، وحرية الرأي وحرية القول. فما الظن بغيرهم من أهل سائر
الأقطار"؟
يضرب أمثلة عن التسامح، لكن بعض التسامح وسيلة وليست
غاية.. ذلك أن الإنسان يطلب أشياء قد لا يكون مقتنعاً بها قناعة حقيقة، فهي وسيلة
لغاية معينة أو حاجة وقتية، وعندما يحصل عليها يبدأ بممارسة ما كان يقف ضده، يقول:
"فلَكَم رأينا من فئة مستضعفين يطلبون التساهل ويدعون إليه بكل لسان، ويثبتون
له الوجوب من كل الوجوه. فلما أن قامت دولتهم، وقويت شوكتهم، وصار إليهم الأمر
والقوة، كانوا من الغلاة المتعصبين. وهذه تواريخ العقائد الدينية والمذاهب
الفلسفية والطرائق السياسية فيما تعاقب عليها من القوة والضعف، والقبول والرفض،
شاهدة بصحة ما أقول. لا يقف النظر على صفحة منها إلا رأى المتساهل في ضعفه،
متعصباً يوم قوته، والمتلاين في حال خسفه، متشدداً في دولته". وما أشار إليه
إسحاق حالٌ متكررة نشهدها يومياً. إن التسامح ليس مسألة شفقة أو إحسان، بل مبدأ أو
واجب، "ولذلك لم يرضَ الحكماء من التساهل بأن يكون صادراً من اللسان مراعاة
لأحكام الضرورة أو من عاطفة القلب، ميلاً إلى المعاملة بالإحسان، بل أوجبوا فيه
الاعتقاد بتحتمه على الانسان... إنما اللازم فيه تقييده بمبدأ متين من الحق،
وتأييده بعماد مكين من اليقين. بحيث يعلم مع مخالفيه فيما يظهرون من آرائهم، وما
يعلنون من مذاهبهم، أنه لا يفعل ذلك رهبة منهم إن كانوا أقوياء، ولا شفقة عليهم إن
كانوا ضعفاء. ولكن قياماً بواجب من العدل والحق".
ويأتي بأمثلة وأقوال على عدم الإكراه كما "قال
يوستنيانوس القديس: أشد ما يخالف الدين نكراً أن يحمل الناس عليه قهراً، وفي: لكم
دينكم ولي ديني، وفي: لا تجادلوهم إلا بالتي هي أحسن، بلاغٌ للمتبصرين"، ثم
يختم كلمته بدعاء المتساهلين، وهو دعاء لا فرقَ بينه وبين أي من الأدعية الدينية؛
يبدؤه بـ يا بديع الصفات إله الموجودات... ويختمه بـ قِنا العثرةَ مع المتعصبين
واحشرْنا في زمرة المتساهلين.
د. فيصل غازي مجهول
(صحيفة المثقف، العدد (4091) في 17/11/2017)