إن التصنيف عمليةٌ ناجحة لها هدف محدد، قد يكون تبسيطياً أو تعليمياً أو وصفياً، لكنه ليس من الحقائق الثابتة بل هو من الأمور المتغيرة بحسب الخبرة والاكتشاف الجديد. فمن الممكن أن يُصنف الناس تصنيفات عدة، أو يُقسموا على أقسام، وأكثرها أن يوصفوا بصفة ما أو نقيضها، مثل "مثقفين ولا مثقفين".
والمجال هنا مجال كلام عن النقائض أكثر منه تصنيفاً. والنقيض سلب تام لصفة في الشيء، فيشتمل الشيء ونقيضه على جميع الاحتمالات. وقد لا يُناسب الكلامُ عن جميع الاحتمالات مجالات كثيرة. ومن السهل أن تعرِّفَ نقيضَ الشيء مادام الشيءُ معروفاً، فهو ليس إلا عملية صورية يقوم بها الذهن. فإذا كان المفهوم غامضاً بعض الشيء فلا يُنتظر أن يكون نقيضُه واضحاً. لذا فإن تعريف اللامثقف أو غير المثقف يساوي، في صعوبته، تعريف المثقف.
إن لم يكن التعريف نافعاً بشكل مباشر
فهو لعبةٌ من الألعاب التي قد تكون أيضاً نافعة في مجال ضارة في مجال آخر، فليس من
المُجدي دائماً أن نبقى في حدود التعريف الذي لن يُعرف كلمة بل ربما يقربنا من
فهمها أو يُوضح طريقة استعمالها. ومهما يكن التعريف الذي يؤتى به فإنه لن يكون إلا
مرحلياً تخلقه ظروف معينة لهدف محدد. وصحة التعريف أو خطؤه أو ملاءمته… كلها تتعلق
بما هو أبعد من التعريف.
هناك أسئلة كثيرة تتعلق بالتفرقة بين
المثقف والمتعلم والواعي وأمثالها. وهذه صفات قد تكون أضدادها أنسب استعمالاً لوصف
من يتصف بها. ومن الممكن أن يتصف بها شخصٌ ويتصف بضدها، لأن المسألة ليست منطقيةً
بقدر ما هي تداولية. فمن اتصف بهذه الصفة أو تلك بالأمس ليس هو من اتصف بها اليوم،
لهذا تُستعمل، أو تُخترع، كلمات جديدة باستمرار للتعبير عن حال جديد. فهل هناك
كلمةٌ اليومَ تعبر عن المثقفين الجهلة؟ أو المتعلمين الذين لم يتعلموا شيئاً؟ أو
أصحاب التخصص الذين لم يقتربوا من تخصصهم بعد؟ أو الأمي المثقف، أو اللاواعي
الأكثر وعياً من الواعي؟ ويستدعي كل هذا وجود كلمات جديدة تصف موصوفاً جديداً.
لقد استُعملت في السابق كلمة أنصاف
المثقفين لتصف كثيراً من الذين يتداولون شيئاً لا يعرفونه، أو عرفوا شيئاً بسيطاً
فادعوا أنهم قد عرفوا كل شيء. لكن ليس من السهل أن تُطلق هذه الكلمة على أي شخص،
لأنها استُعملت أيضاً للطعن بمثقفين ما كانوا أنصافاً بل هم "مثقفون
ونصف". أو استُعملت مثقف حقيقي ومثقف مزيف، أو ربما فيلسوف وسوفسطائي (إذا
أخذنا كلمة السوفسطائي بالمعنى السيئ). وكل تلك كلمات قابلة لتبادل المواقع عندما
تصبح كثيرة الاستعمال والتداول، فيحاول أن يلبسها من لا تليق به، ولماذا يحاول أن
يلبسها؟ لأنها لباس مرغوب فيه. ويحاول أن ينزعها مَن رأى أنها بليت لكثرة لابسيها
الذين لا تليق بهم. فيقول إن كانت الثقافة هكذا فإنني لست مثقفاً.
في الماضي كان يُقال عن شخص إنه يقرأ
ويكتب دلالةً على أنه لم يحصل على شهادة رسمية، وأنه قادر على قراءة بعض الكلمات
وربما كتابتها. ولا ينفع أن تقول عن طبيب إنه يقرأ ويكتب، لأنه بالتأكيد يقرأ
ويكتب. وكان هذا اختياراً مؤدباً لمجموعة من الناس. ولا تشير الكلمة بحد ذاتها إلى
معنى سيئ، لكنها، استعمالاً، تعني أنه قريبٌ من الأمي. كما أنه في الترقيات
العلمية الجامعية إذا قيل لشخصٍ إن بحثك مفيد امتعض وضجر لأنه يعرف أن كلمة مفيد
تعني درجة متدنية وقليلة من درجات الترقية العلمية، أي أنها لفظة مؤدبة لرفض
البحث. وإذا قال رجل الأمن سابقاً لشخص "تفضل معنا" فهي لفظة مؤدبة
أيضاً، لكنها قد تعني نهاية حياة أو بداية معاناة لا نهاية لها أو إهانة، وأهون
عليه أن يُضرب بالسياط في بيته من أن يُقال له "تفضل معنا". وكانت كلمة
"الأمن" تبث الرعب في النفس أكثر من أية كلمة أخرى. فهل لدينا الآن
كلمات تصف وضعاً ثقافياً معيناً؟ وهل تجرؤ مؤسسة ثقافية على أن تقول إننا وبكل فخر
ننتج جيوشاً من اللامثقفين؟
إن السؤال عن الدور الذي يقوم به المثقف
يبقى قائماً، وتبقى الإجابات عنه كثيرة مادامت صورة المثقف في الذهن مختلفة. ولو
انتقلنا إلى كلماتٍ أقل عموميةً لكانت معرفة الدور أسهل. فإن قيل أن ليس للمثقف
دور في المجتمع فما كان هذا القول صادقاً، إلا إذا كان يُقصد بالدور دوراً محدداً
لا يقوى عليه نوعٌ من أنواع المثقفين في مجتمعٍ معين، مع تجاهل لطبيعةِ مرحلةٍ من
مراحل التاريخ. وهل يُحارَب من لم يكن له دور في المجتمع؟ وهل أخطأت مؤسسات كبيرة
وجماعات عندما سخرت أموالاً ورجالاً من أجل محاربة نوع من أنواع المثقفين؟ لا
تنتظر من الجهات التي حاربت الثقافة أن تُعلن الأسبابَ الحقيقية للحرب، إذ أن من
طبيعة بعض الأسباب أن لا تُعلن ولا يُكشف عنها. فقد توصل الإنسان بحكم تجربته
الطويلة إلى أنه إذا كتم الأسباب الحقيقية، في بعض المجالات، قويَ وإذا كشفها ضعف.
فنادراً ما ترى دولة، أو مؤسسة أو حزباً، تقول إننا ضد الثقافة؛ ذلك أن لكلمة
الثقافة وقعاً جميلاً في النفس، كما أنه لا تتبنى مؤسسات أو أحزابٌ القولَ بأنها
ضد الإنسانية أو ضد السلام أو ضد العدالة، لأنهم يحاربون الأفعالَ لا الكلمات. ما
أرادوا أن يخسروا سحرَ الكلمات المؤثر المجرب فعله، فخلقوا من يستعمل الكلمات
نفسها، لكن الفعل مختلف تمام الاختلاف. وللكلمات تاريخ طويل من الاستعمال لا يُضحي
به أصحابُ الهدف الواضح الذين سرقوا الكلمات من أصحابها. ثم تأتي تعريفات أخرى
وتتراكم الكلمات فوق الكلمات حتى يضيع المعنى.
مهما يكن التعريف فلنقل إن هناك مجموعة
من الصفات، التي يُتفق عليها، تجعلنا نطلق على شخصٍ صفةَ المثقف. لكن، ما الذي
يجمعهم؟ أهمٌّ واحد أم مصيرٌ واحد أم هدفٌ واحد؟ إن المثقف فردٌ موجود في كل طبقة
وكل اختصاص وكل مجال. فهل يزيد تأثير هؤلاء الأفراد إذا تجمعوا؟ أم أنهم يبقون
أكثر تأثيراً بوصفهم أفراداً في جماعات؟ هل تستطيع أن تسلبَ صفةَ الثقافة عن أولئك
الذين كانوا وما يزالون يروجون لمجرمين وطغاة؟ ما الذي يجمعهم بمثقفين وقفوا ضد
الطغاة والمجرمين؟ هل من علاقة بين الثقافة والموقف؟
إن جملة "يا عمال العالم
اتحدوا" – المستعارة من الماركسية كما لا يخفى – قد خوطب بها العمال، صنف من
الناس تجمعهم معاناة مشتركة ومصير مشترك أينما كانوا، وإذا اختلف المختلفون حول
ماهية العامل، أهو عامل في ورشة أم عامل في معمل كبير، فإن الاختلاف لن يكون
كبيراً، إذ ليس ذلك عصياً على التحديد. لقد كانوا قوة ضاربة إذا ما وُجهت لم يستطع
الوقوفَ أمامها من أحد. وكانت الدعوةُ إلى أن يثور العبيدُ تخص صنفاً من الناس
أهلكته العبودية وقد أحسوا بها إحساساً قبل أن يفهموا معنى العبودية. فالمعاناة
إحساس وكذلك الظلمُ والحب والحزن والغربة والخوف، قبل أن تكون فهماً. وما كان
أولئك العمال معنيين بالفرق بين الذرية عند ديمقريطس وأبيقور، وما كانوا لفهمه
مؤهَّلين ولا كانوا في براغبين، لكنهم نُبِّهوا إلى أن بالإمكان تغيير أوضاعهم
ومصائرهم. وقد كانت لهم ثقة بمن دعاهم، كما كان للعبيد ثقة بمن دعاهم. وليس شرطاً
أن يكون عبداً مثلهم، بل هو شخص أحس بهم فتبنى قضيتهم، وعرف كيف يجعلهم يلتفون حول
فكرة تمنحهم القوة في الفعل.
إن تحليل المجتمع ومكوناته والبحث في
العلاقات التي تربطه يقوم به مفكرون كبار، لكن التأثير في الجماهير مختلف عن هذا،
إذ يحتاج إلى شيء من التفكير وكثير من الفعل، يحتاج إلى قليل من التفكير الذي يوجه
الفعل؛ ذلك أن السيطرةَ على عالم الكم مختلفة تماماً عن السيطرة على عالم الكيف.
فالقدرة على إخراج ألف شخص بمظاهرة طائعين فرحين مضحين لا مجبرين باحثين عن منفذ
للهرب، لتختلف كل الاختلاف عن القدرة على التحليل والفهم. إنها نوع من أنواع الفهم
الموجِّه. إن الجماهير هي الجماهير، تلتف حول فكرة تُعبر عنها بشكل أو بآخر ولها
قوة تأثير تجعل المرء ينضوي تحت جماعة ويحتمل ما يحتمل من أجلها، ولها عمق في
التاريخ الذي يقوي الفكرة التي يلتفون حولها ويكسبها الشرعية. وبما أن كثيراً من
المسائل تحتاج إلى كم لا إلى كيف فإن دور الشخص سيكون محكوماً بقدرته على التأثير
في الكم، ذلك إذا أراد أن يكون مؤثراً.
قيل إن العلم قد تقدم عندما انتقل من
الكيف إلى الكم، عندما حلت درجة الحرارة محل الحار والبارد والدافئ، عندما حل
السنتمتر محل الطويل والقصير، عندما حل الكيلو غرام محل الثقيل والخفيف. لكنَّ
لهذا مجالاً محدداً، ومتى كانت الحياة علميةً بشكل صرف كي ينطبق عليها هذا الحكم؟
ما يزال عالَم السياسةِ من عالم الكم لا الكيف. فيُقال خرجت مظاهرة من مليون شخص،
ولا يُقال تظاهر عشرة أشخاص ضد كذا وكذا. وإذا جُمعت توقيعاتٌ لرفض فكرة أو
لقبولها، فمهما يكن أولئك فإن عدد التوقيعات حكمٌ يفصل في المسألة، لأنها من عالم
الكم لا من عالم الكيف. إن عالِماً واحداً قادرٌ على أن يجابه الملايين من الأموات
والأحياء ممن لا يعترفون بنظريته؛ لأن الصدق أو الكذب فيها ليس مرجعُه إلى جمع من
الناس، بل جمع من المختصين، وإمكانٍ للتحقق. لكن، في عالم السياسة والمجتمع
والدين، يكون الجمع مهماً أكثر من أي شيء آخر. الحكم في عالم الجماهير لمن يستطيع
أن يُخرج أكبر عدد ممكن من الناس. وإذا قلت قد أخرجتهم خرافة، فمن قال إن الخرافة
أقل تأثيراً من الحقيقة؟ إن خرافةً آمن بها ملايين الناس لأكثرُ تأثيراً وربما
أكثرُ صدقاً من حقيقةٍ آمن بها أفراد. وإن لم تنتم إلى مجال التحقق فلن يبقى إلا
التناطح بالخرافات، وستكتسب أقواها صفة الصدق وصفة الحقيقة.
من أراد أن يؤثر في جماعة تأثيراً
فعالاً بحث عما يُمكن أن تلتف حوله تلك الجماعة، وسيتنازل عن شيء من فرديته. وما
كان هذا عيباً أبداً بل هو شرط من الشروط. وفي الأوقات العصيبة يُحتاج إلى جماعات
ذاتِ فعلٍ قوي لا جماعاتٍ مفكرة ضعيفة. ويُحتاج إلى من يكون له هدف واضح ويجمع ما
يجمع ويحشد من يحشد لنصرة هذا الهدف. لا أن يبحث في مجال لا حسم فيه. إنه مجال
تغالب لا مجال بحث. وقد يُستثمر مجال البحث في التغالب أيضاً.
تنتمي الثقافة إلى عالم العلاقات المؤثرة في أمور خارجة عنها. فقد لا يكون لها تأثيرٌ مباشرٌ بل غير مباشر، ولا يقلل غيرُ المباشر من شأنها لأنه من طبائعها. إنها الشرارة التي تشعل البنزين، إنها الملح الذي يوضع في الطعام، إنها حرف العطف الذي يجمع بين الكلمات أو الجمل، إنها الممهد والمنظر للتغيير، إنها المُنبِّه والناقد والمُقوِّم، إنها التي تمحو نفسها إن كان في ذلك حياة أفضل.
د. فيصل غازي مجهول
(الصباح، العدد (505)، 21 آذار 2005).