د. محمد فاضل عباس
التزاماً مني بالوعد الذي قطعتُه على نفسي بأن أنشر كل
ما كتب مدني صالح ولم يُكتب له أن يَخرج بكتاب، وقد يأتي يومٌ أنشر فيه كل ما قاله
لي وكل ما سمعتُه منه مباشرة مع غيري، لكن لا أعدكم بذلك، حتى لا أُلزم نفسي بما
قد لا أفعله. وأنا اليوم أستكمل ما قد بدأت به.
فشكراً للدكتور فيصل غازي مجهول على ما قام به من مراجعة لكتاب يستحق منه ومني الاهتمام لأنه لأستاذنا الكبير مدني صالح.
هذه مجموعة من المقالات والبحوث كان قد نشرها الكبير
مدني صالح في مختلف الصحف والمجلات التي كانت تصدر في العراق، كنت قد جمعتها وقد أعددتُها
واليوم أقدم لها وأنشرها بكتاب، كل ذلك قد جرى بمعية الكبير مدني صالح ولم أخرج
شيئاً للنشر إلا وأنا متفق معه في ذلك وهو متفق معي على ذلك من العنوان إلى ترتيب
البحوث أو المقالات أو سموها ما شئتم حتى آخر صفحة. الأمر الذي لم يطلع عليه مدني
صالح هو تقديمي لما أنشر له، وأنا متأكد لو تم الأمر وهو على قيد الحياة لصفقت
جميع جوانحه لكل حرف كنت قد كتبته عنه، ومتأكد أيضاً أنه كان قد قال لي: لا أجد
أفضل من يقدم لي منك.
إذن هي مجموعة من البحوث والمقالات قد اختار لها مدني
صالح أن تكون تحت عنوان: (الثقافة التي نُريد) عنوان قصد به الثقافة التي نرجو،
الثقافة التي نأمل، الثقافة التي نحلم، الثقافة التي نريد بها أن تكون وفق مثال
متمنى، وأُضيف إليه الثقافة التي نسعى، الثقافة التي بح صوتنا وتعبت أقلامنا من
الدعوة إليها، الثقافة التي قد يئسنا منها أن تتحقق في يوم ما، عنوان قصد به مدني
صالح وأضيف أنا إليه لأني قد أكون أكثر منه إحباطاً: ثقافة الحالمين، ثقافة من هم
خارج التاريخ، ثقافة من لا ينتمون إلى ما يجري، لكنها أمنية وحلم قد ينتفع به من
هو معنا في أمنياتنا وأحلامنا، والآن لا يهمني أن ينتفع بها أحد، كما لا يهمني أن
تُقرأ أو لا تُقرأ ولا يهمني من الذي يقرؤها، كما لا يهمني كيف تُفهم، ما يهمني أن
أنجز وعدي، وعد أفتخر به كثيراً ومهمة قد انتخبني لها مدني صالح انتخاباً أعتز به
كثيراً، فما أقوم به قد يساوي عندي المئات لا بل الآلاف مما ينشر وقد ينشر، لا بل
لا قيمة لكثير مما ينشر وقد ينشر إذا ما قورن بما أقوم به سواء من ناحية الجهد
الذي بذلته أو من ناحية الأفكار الموجودة به، فمهمتي ومهمة مدني صالح كما أراها
أنا اليوم وقد لا تكون كما يراها مدني صالح بالأمس هي أن اقدم عملاً لفيلسوف كبير،
لا أن أفسر وأبرر وأدافع عما قدمته لهذا الفيلسوف الكبير وأترك لمن شاء قراءته أن
يفسر ويبرر وينتقد ويقبل أو يرفض، فمهتمتي أن أُنجز وعداً كنت قد قطعته مع نفسي
وعليها.
إذاً جاء العنوان (الثقافة التي نريد) أراد به مدني صالح
أن يقول لكم: إن العائد من الكتاب بعد القراءة مثل العائد من المدينة بعد الزيارة،
فكلٌّ يعود لنا بانطباع معين عن أي مدينة يزورها والانطباع يكون على قدر الإدراك
والهم والثقافة والحاجة، فلا تقدير لأي شيء بلا اهتمام وبلا هم وبلا حاجة وبلا
تقدير، فالاستفادة من قراءة الكتب لا تكون إلا على قدر الهم والإدراك والحاجة
والاحترام، لكن يظل الأدب الجميل واحداً متحداً لا يختلف عليه إلا من هو لا يعرف
الجميل من الأدب عن غيره، كما أراد مدني صالح من جميع الذين يريدون أن يدخلوا عالم
الثقافة وعالم الكتابة أن يقرأوا جيداً بعض أمهات كتب النحو والبلاغة والعروض فبها
سوف تميزون الذين يصفرون ولا يبيضون وبها سوف تميزون الجعجعة التي لا طحين من
ورائها وبها سوف تميزون الذين لا تقبض منهم لا فكراً ولا أسلوباً جميلاً.
وهي دعوة مدني صالح المستمرة لإتقان فنون اللغة العربية
- التي بها نقرأ وبها نكتب – نحواً وصرفاً وبلاغةً وعروضاً، ومرة أخرى لمن أراد أن
يدخل عالم الثقافة وليس لعامة الناس فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها فلا يفرضها فرض
عين على كل مسلم ومسلمة لا إنها فرض كفاية لمن يريد أن يكتب، فالكتابة مسؤولية
كبيرة لا يجوز أن نستهين بها، وهذا الذي قد يحصل الآن، فقد أدرك مدني صالح التدهور
الحاصل في الاستهانة باللغة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين، والحمد لله
أنه لم يُدرك جيداً ما يحصل في النصف الأول من القرن الحادي والعشرين، فلو أدرك
ذلك لترحم على النصف الثاني من القرن العشرين، وهو بذلك أراد أن يعطي دوراً كبيراً
للأدب فالأدب كلام جميل يؤدب من يقرأه ويمتع من يسمعه.
كما تجد موقفاً لمدني صالح من جماعة (شعر) وجماعة (حوار)
ومن قصيدة النثر، مدافعاً عن بلاغة طه حسين الذي هابه المستشرقون واحترموه ذلك
لأنه كتب الأدب بتجريب عربي على قدر الحال وبأسلوب عربي مبين ((ألا يخيل لك أن بعض
الفتية يعتقدون أنك يجب أن تناثر بهمنجوي قبل أن تكتب عذاب أم الباجلة، وأن تناثر
بجان بول سارتر قبل أن تكتب آلام أبو الفحم، إذا جاء الصيف وأوجاع أبو الثلج، إذا
جاء الشتاء، وأن تقضي ستة أشهر في متحف اللوفر قبل أن ترسم بائعة الخبز، وأن تدرس
فنون الإخراج في لندن وروما وباريس قبل أن تُخرج مسرحية عنوانها (بائع الشلغم) وأن
تفتح قوسين هكذا ( ) وتضع بينهما كلمة (door)على هذا النحو (door) كلما وردت كلمة (باب) في التأليف الأكاديمي الرصين، وأن تستعين
بأساطين الباليه الروسي لتحسين رقصة (الهجع) وأن تسمي طباع أمك وعادات أبيك وتنور
عمتك وجاون خالتك وتخوت مقاهي بغداد (فلكلوراً) وأن تكتب الشعر والنثر مستهيناً
بالبلاغة العربية لأنها بلاغة لم يتبعها (كولن ولسن) في (ضياع في سوهو) ولم يقبلها
مارون عبود من طه حسين)).
وأشد ما يمقت مدني صالح المغالون الذين يحرمون النظر إلى
السماء بالتلسكوب الذين أساءوا للكبار الأساطين الجهابذة الذين أساءوا لابن رشد وأساءوا
لعلاقة السياسي بالفيلسوف ولعلاقة الفيلسوف بالفقيه الذين استاءوا من جمع السياسي
للفقيه وللفيلسوف في مجلس واحد، فقهاء على يمينه وفلاسفة للثقافة وللتنوير على
شماله، فاستاءوا من فلاسفة التربية الذين يقبلون بالعلم ويقبلون بالتشريع ولا
يخلطون ولا يستعدي أحدهما على الآخر واستاءوا من الذين يقدرون بعضهم بعضاً،
فالفيلسوف العالم من الطراز الأول في الفلسفة مجتهد والمجتهد صديق فقه يحب الفقهاء
ولا يقدر كبير حق قدره إلا كبير.
واستاء الذين لا كعاب لهم ولا هم يلعبون ولا مناجل لهم
في حصاد ولا سنابل لهم في حصيد واستاء الذين كانوا سبباً بصلب الحلاج وقتل
السهروردي واستاء الذين كانوا سبباً بمحنة ابن رشد والذين ضربوا المعري على رأسه
وكسروا عليه عصاه وخسفوا به الشختور في الفرات ولم يرحموا ضعف حاله وقلة حيلته،
فمثل هؤلاء لا راحة لهم إلا بإلقاء الثقافة في الجب، ((إنهم الذين لو خلت الأرض
منهم لكان لنا اليوم في كل عاصمة من عواصم الدنيا بيتهوفن وتشارلي شابلن ورودان
وسيزان وفاجنر وتشيكوف، ولكان لنا اليوم في كل من عواصم العرب فارابيان وشافعيان
وفراهيديان وبيتان للحكمة وعكاظان ومربدان ولبيدان..... ولكان اليوم في كل من قرى
العرب فيروز وأم كلثوم)).
فلا تخفْ على كبير من كبير ولا تخف على كبير إلا من
الخائبين المعادين للنبوغ وللعبقرية وللجمال لأنهم قد غلبوا كباراً ويغلبون!!
ويستمر كبيرنا مدني صالح مؤكداً في كتابه هذا على أن
تكون المتعة والاستئناس شرطين من شروط الأدب الرصين.
وبما أن مدني صالح إعصار نقدي لا يعرف الهدوء، فطال إعصاره
المؤتمرات والندوات والمآتم الثقافية، فتجده ناقداً لمؤتمر الفارابي الذي أقُيم في
بغداد كناية عن نقده لأغلب المؤتمرات والذي يقول فيه ((ومن الحرام أن تشارك في
المهرجان الألفي للفارابي وأنت لا ظعن لك في الفلسفة ولا بعير، فالمجتمعون اجتمعوا
في المهرجان الألفي للفارابي وانفضوا وظل الفارابي مجهولاً)). ومرة ثانية وثالثة
وعاشرة نسأل ونكرر ونقول: ما النفع من المؤتمرات التي تقام في عالم الفلسفة على
أقل تقدير؟؟
كما يدعو مدني صالح إلى التمييز بين الأدب وبين التاريخ
وبين منهج الأدب ومنهج التاريخ وبين الغاية من الأدب والغاية من التاريخ وكيفية
التعامل معهما، فالدقة والحقيقة العلمية والواقعة الاجتماعية لا مناص منها في المنهج
التاريخي ولا حاجة لنا بها وليست من الضرورة في النقد الأدبي، فالأدب من عالم
الخيال والتاريخ من عالم الواقع.
كما يأخذ مدني صالح على الذين ينقدون الأدب العربي
بقواعد نقد إنجليزية وروسية فرنسية، وذلك لأن الإنجليز ينقدون أدبهم الإنجليزي
بقواعد نقد إنجليزية، ولأن الروس ينقدون أدبهم الروسي بقواعد نقد روسية وكذلك
الفرنسيون فهؤلاء ((يأخذ الواحد منهم بطرف من الثقافة الإنجليزية ويحدثوك بعد ذلك
عن شروط وصفات ومقومات كلاسيك الثقافة العالمية وهو في الحقيقة لم يأخذ إلا بطرف
من ثقافة قوم ليسوا كل سكان هذي الأرض وليست بلادهم كل هذه الكرة الأرضية)). وينقد
مدني صالح أيضاً كل الذين جاءوا من الخارج ودرسوا جانباً من جوانب الثقافة في بلد
من بلاد الغرب وادعى أنه يعرف كل ثقافة العالم وامتلك الجرأة عن الحديث فيها
والكتابة عنها، فلا تصدق من يقول لك ((إنك يجب أن تتعلم لغة عالمية لتقرأ كلاسيك
الأدب العالمي لتنشئ أدباً عالمياً، لا تصدق ذلك لأن سبيل عالمية العالميين لم يكن
إلا من لغات قراهم ومنها لغات الآخرين فإلى عالمية العالميين)). فتشيخوف أديب
عالمي كبير لم يكبر إلا بأشياء روسية صغيرة، إنه لم يرقَ إلى عالمي الأدب إلا من
خلال شؤون روسية صغيرة بلغة الروس، فإنه ممتع مؤنس ونافع لطيف وخفيف لأنه يتكلم
لغة روسية بسيطة خفيفة يفهمها الجميع.
ويستمر مدني صالح ناقداً لمن يُقسم الأدب والأدباء إلى
مراحل وإلى عقود ناقداً تصنيف الأدب والأدباء في العراق ويعتبر كل ذلك من الأخطاء
والأوهام، فتاريخ الأدب واحد، فلماذا يزوي بعضهم بعضاً ولماذا يتباهون بأنهم لا
يقرأون إلا الأدب المترجم ويفرحون إذا جاءت تزكية من مستشرق، أو إشارة من مجلة
عربية تصدر في لندن أو بذكر أحدهم في مقالة يكتبها أديب من الدرجة العاشرة ؟
((فلماذا لا يتناقد الأدباء مثلما تناقد الزهاوي والرصافي، ومثلما تناقد البياتي
والسياب، ومثلما تناقد شوقي وحافظ ونعيمة والعقاد، ومثلما تناقد العقاد وطه حسين،
مثلما يتناقد الأدباء، فلماذا يزوي بعضهم بعضاً ويشكون أوجاع الازواء؟)).
والأمر الذي يعرفه مدني صالح ولا يعرف غيره أن الأديب
الحق لا يمكن إلا أن تكون له قدرة عالية على النقد والتجويد، كما وينصح مدني صالح
الأدباء بقوله ((تناقدوا مثلما تناقد الأدباء... .... تناقدوا لا توكلوا أمر أدبكم
إلى غير الأدباء من المستشرقين وأساتذة الجامعات وصغار الصحفيين من مرتبة مذيع من
الدرجة العاشرة ومن مرتبة محرر مبتدئ في قسم المنوعات.... ... وتناقدوا في الأدب،
فالنقد إنشاء أدبي لا تتركوه نهباً مقسماً تتناقله أيدي الذين لم تجِد أيديهم
بإنشاء)).
ويستمر مدني صالح بملاحظاته الجريئة وفي رؤيته الثاقبة
كاشفاً كل من يدعي المعرفة وكل من يدعي أنه يعرف كل ما قد يُذكر أمامه من أسماء
فلاسفة وعلماء ومفكرين وكل ما يُذكر من أسماء الكتب، فهنالك من يريد أن يشاركك
الحديث في أي شيء تتحدث فيه وعن أي شيء وهو لا يعرف شيئاً عن أي شيء من الذي تتحدث
فيه ويصر على مشاركتك الحديث بالذي لا يعرف عنه شيء ليُثبت لك وللآخرين أنه يعرف
وأنه مثقف موسوعي لا يمر عليه اسمٌ في عالم الثقافة إلا ويعرفه ولا يصدر كتابٌ إلا
وقد قرأه، فلا تصادف من يقول لك لا أعرف إذا ما ذكرت أمامه اسماً من أسماء
المشتغلين في عالم الفكر والثقافة والفلسفة.
ولا أدري لماذا ينبهر الناس بالذي لا يعرفون عنه
شيئاً؟؟!! وينبهر الناس بالذي لا يفهمون منه شيئاً؟؟!! وينبهر الناس بمن يتحدث
بلغة لا يفهمون منها شيئاً؟؟!! فهل أصبحت الرطانة في الأدب وفي الثقافة وفي
الفلسفة طريقاً للشهرة وللإعجاب وللانبهار؟؟
ومعياري أنا أن كلَّ الذين يستعجلون الانبهارَ والإعجاب
لا يستطيعون أن يميزوا بين الرطانة في الأدب والدجلِ في الثقافة وبين الأدب النافع
الممتع الجميل والثقافة الحقة، مثلما لا يميزون بين الرمز وظاهر القول، ولا يميزون
بين البساطة والضحالة، ولا يميزون بين البلاغة والتعقيد، وبين المجاملة والكذب،
فيختلط عليهم ويضطربون في أحكامهم ويرتبكون في مواقفهم.
ومرة أخرى يقول مدني صالح ((لا تقعدن عند حد الترجمة
والتجميع من لغات تجهل تسعة أعشارها إلى لغة تجهل سبعة أعشارها... إياك! فهذا درب
مسدود نحو (العالمية) لأنه مسدود نحو الخلق الأصيل والأبداع)) فإن ((أكثر الذين
يحتالون بالحروف اللاتينية في كتبهم العربية محتالون فاحذروهم.... ومثلهم الذين
كلما ورد الديك في حواشي كتبهم شرحوه في الهوامش بأنه ذكر الدجاج الذي لا يبيض
لكنه يصيح عند انبلاج الفجر..... الخ...... الخ)).
ومرة ثانية وثالثة وعاشرة يتحدث مدني صالح عن التربية -
وليس هناك من يسمع – مؤكداً على ضرورة التركيز على التربية البدنية والفنية وعلى
اللعب والتخفيف من أعباء الدرس النظري والتخفيف منه إلى عشرين دقيقة، كما وضع مدني
صالح تقسيماً لمراحل التربية. كل ذلك دليل على مدى انغماس مدني صالح واهتمامه
بمشاكل المجتمع، لكنه يصيح في فضاء لا هواء فيه حتى يئس، فالفكر لا يمكن له أن
يمارس أي دور في المجتمع ما لم يجد آذاناً صاغية من السياسي ((وكي لا يستفحل أمر
التدهور التربوي بين فوضى القبول في الجامعات إلى عشوائية الإعداد في المدارس. نستلفت
الأنظار التربوية كافة إلى وجوب احترام التخصص والنظام وتوزيع العمل والاقتصاد
التربوي في الإعداد التربوي العام وفي الإعداد التربوي الخاص الذي منه الإعداد
للتربية الجامعية ودخول الجامعات.
ومن الهدر التربوي المرعب أن ترهق الناشئة بالعالي
النافع الرصين من الرياضيات وأن تثقل عليهم من المستوية ومن الجبر ومن المجسمة ومن
حساب المثلثات والخ.. والخ.. ومن التفاضل ومن التكامل ومن اللوغاريتمات والخ..
والخ.. ومن الحاسبات ليجدوا أنفسهم بعد جميع هذا الهدر التربوي المرهق في دوائر
جامعية لا يحتاجون فيها شيئاً من العلوم الرياضية بأي من أحكام الاختصاص.. ومن
الدوائر الجامعية التي لا يحتاج فيها الطلبة شيئاً من الرياضيات: دائرة الدراسة
الطبية والطب العام وطب الأسنان والبيطرة ودائرة الدراسة الزراعية ودائرة الدراسة
الهندسية عامة في النبات وفي الحيوان)) وهكذا.
والمأساة الكارثة والكارثة المأساة ((خريجون يحملون
شهادات الدراسة الابتدائية وشهادات الدراسة المتوسطة وشهادات الدراسة الاعدادية
وشهادة البكالوريوس وشهادة الماجستير وشهادة الدكتوراه: ولا يجيدون اللغة العربية
قراءة، ولا يجيدون اللغة العربية كتابةً، ولا يجيدونها إذا تكلموا بها إلا كما
يجيدها الذين لم يروا مدرسةً ولا معلماً ولا كتاباً ولا تعليماً)) وأشد ما يتسغرب له الكبير مدني صالح
أمر من يذهب إلى بلاد روبنسن كروزو لتمنحهم شهادة عن شروح المعلقات!!!! ((ها جاءك
خبر فرايدي الذي يذهب إلى روبنسن كروزو من نجد ومن تهامة ومن الحجاز ليمنحه روبنسن
كروزو شهادة الدكتوراه في موضوع شروح المعلقات النجدية والتهامية والحجازية؟؟
الأمر الذي هو حال فرايدي الذي لا يخرج مسرحية بطلها بائع الشلغم في بغداد إلا بعد
أن يذهب إلى روبنسن كروزو فيمنحه روبنسن كروزو شهادة الدكتوراه في فن الإخراج؟؟)).
وقد تجيب هذه الأسطر والتي تليها عن موقف مدني صالح من
بعض الشهادات الأكاديمية التي تُمنح في بلاد روبنسن كروزو إذ يقول: ((لكنك لا
تستطيع إلا أن ترد الأمر إلى العقدة حين تعرف أن ابنة أخ عميد الأدب العربي التي
عمها عميد الأدب العربي لم تكتب أطروحتها في الموضوع العربي إلا في جامعة
روبنكروزوية في بلاد روبنكروزوية.. أم أن ذلك لأن عميد الأدب العربي نفسه لم يكتب
أطروحته التي موضوعها عميد التاريخ العربي إلا في جامعة روبنكروزوية تحت إشراف
روبنكروزوي في البلاد الروبنكروزوية؟؟ أهان عليك، الآن، أمر العرب المعاصرين الذين
يكتبون الأطروحات في بلاد روبنكروزوية تحت إشراف روبنسن كروزو والأطروحات في الأدب
العربي المعاصر والأدباء العرب المعاصرون في بلاد العرب لا يعرف منهم بروفسور
روبنسن كروزو إلا بقدر ما أعرف أنا من الأدباء الصينيين)).
وعودة إلى أمر التربية وأدب التلمذة وحسن الإصغاء التي
هي شرط من شروط التعلم يقول مدني صالح: ((ومن لا يحسن أدب التلمذة لا يصير
أستاذاً، ومن أدب التلمذة أن لا يصغي التلميذ بأذن ويسد أذناً، ومن أدب التلمذة أن
لا ينتبه التلميذ إلى بعض مما يقول الأستاذ ويغفل عن بعض، ومن أدب التلمذة أن لا
يسمع التلميذ نفسه من الأستاذ ما ليس يسمع، ومن أدب التلمذة أن لا نحّور في كلام
الأستاذ وأن لا نبدله مثلما نشاء أو أن نغير فيه، ومن أدب التلمذة أن نستوعب
بالإدراك كلام الأستاذ كلاً متكاملاً جملةً وتفصيلاً كما هو وأن نقبل عليه – بعد
تكريم الأستاذ – بالنقد تعليلاً وتحليلاً وتركيباً ومقارنةً ومقابلةً وقياساً
ومماثلةً واستخلاصاً بالاستنتاج نستخرج النتائج محكمة مثلما نشاء وكما نريد ضمن
حدود حق الخاص على العام وحق العام على الخاص في آداب التتلمذ التربوي التاريخي
التطوري الذي لا عصبية فيه ولا غطرسة ولا انغلاق)).
كما ستجد في هذا الكتاب بواكير لموقف مدني صالح من
الاستشراق ومن المستشرقين الأفكار التي تبلورت عنده بعد ذلك في كتابه (بعد
الطوفان).
وأخيراً الثقافة التي يريدها مدني صالح ونريدها نحن معه
ونحلم بها ((والثقافة التي نريد ثقافة تعبر عن الحق والحقيقة والعدل بأسلوب نافع
ممتع جميل وسيلة لثقافة نافعة ممتعة جميلة.
ونريدها ثقافة إنسانية تعتمد الإنسان غاية.. ونريدها
ثقافة ممتدة من حب الحياة وتقديسها امتداداً طبيعياً غريزياً فطرياً تلقائياً نحو
حب الجمال وتقديسه وتقديس العدل معه والحكمة وحقوق الازدهار امتداداً طبيعياً لحق الحياة.
نريدها ثقافة متفائلة فرحانة بما حقق الإنسان من سيطرة
على الطبيعة فقد وقف اليوم على جبين القمر بدراً وهلالاً وفي المحاق، وينوي اليوم
وقوفاً على جبين المريخ.. فرحانة بما حقق الإنسان من تفوق على الذات فمستقبل الأرض
اليوم لمن يزرع ومستقبل المعامل اليوم لمن يصنع.. والمجد اليوم لا شك على هذي
الأرض للإنسان الكاسب حلالاً من الإبداع في الرأي ومن التجويد في عمل شريف يتقنه
ويحبه ويخلص له بروح من حسن المواطنة وبروح من إنكار الذات بعد التفوق عليها
بالثقافة المتفوقة على جميع طبائع قوى الكائنات........ ونريدها ثقافة من الإنسان
إلى الإنسان ضمن حدود تقديس روح المواطنة وحب الوطن.. ونريدها بسيطة بلا ضحالة
وعميقة بلا تعقيد، ونريدها فرحانة بشوشة في التاريخ: في صلب التاريخ، في صلب
الحركة الواحدة المتحدة المؤبدة الدائبة بلا انفكاك في اتجاه السيطرة على الطبيعة
إلا بقدر ما يتفوق على الذات.. وليس له أن يتفوق على الذات إلا بقدر ما يسيطر على
الطبيعة، وليس له أن يساهم بثقافة إلا بقدر ما يسيطر على الطبيعة، وبقدر ما يتفوق
على الذات)).
كلمة لا بد منها:
وإذا ما قرأتم هذا الكتاب ورأيتم قلة أخطائه الطباعية
والاملائية، فكل هذا لا يعود فضله إلَّا إلى صديقي الفاضل الوقور الدكتور فيصل
غازي مجهول الذي قام بمراجعته طباعياً واملائياً ومراجعة أشياء أخرى... مراجعة
جادة متأنية لا كالذي يراجع كتاباً ليسقط فرضاً، فهذا فضلٌ لأنني لا أجيد ما
يُجيده بقواعد النحو والاملاء، وهذا أمرٌ لست أبالغ بمدى أهميته لأن نص وأسلوب
مدني صالح نص محترف صاحب بيان وبديع وبلاغة إذا ما اختل فيه حرف أو سقطت منه همزة
أو رُفع فيه منصوب أو نصب مجزوم اختلف علينا المعنى وضاعت منا الفكرة.
تقديم: د. محمد فاضل عباس