recent
أخبار ساخنة

مدني صالح، الأعمال الكاملة

بعدَ جهدٍ وتأنٍّ وصبر.. سبقَها حبٌّ وتلمذة وصحبة واهتمام وتأثر… أنجزنا المجموعةَ الكاملة لأعمال "مدني صالح". وربما لا توجد مجموعة كاملة بمعنى الكمال الحقيقي، إذ يبقى هنا أو هناك مقالٌ منشور ولم نعثر عليه… وإن عُثر عليه في يومٍ ما فسيكون ملحقاً.

تقديم للأعمال الكاملة: د. فيصل غازي مجهول ، د. محمد فاضل عباس

مدني صالح

كنا من أقرب الأشخاص إليه لاسيما في المرحلة الأخيرة، ولو ذَكرَ كلٌّ مِنا ما عنده من أسرار مدني صالح وأقواله وآرائه التي كان يبوح لنا بها لكانت كتباً بأكملها بل هي أهمُّ من كتبٍ وأبحاث. إنها انطباعات وآراء ومواقف وخبرات كنا مؤتمنَينِ عليها، ولولا الثقةُ والاطمئنان لما سمعنا منه شيئاً ولا صرَّح لنا بأشياء وأشياء لكنَّا لَسنا من الذين يهتكون الأسرار، وموقفُنا الآن من الحياة يجعلُنا أقرب إلى الصمت منا إلى الجهر، وقد ترَكْنا هذا كلَّه لعَالمِ الصمت الذي ننتمي إليه بشكلٍ أو بآخر - كلٌّ على طريقته الخاصة - والصمتُ موقفٌ وقرار واختيار.

لقد بدأنا بمشروع الأعمال الكاملة قبل سنوات، وصادفتنا بعض الظروف المعرقلة، وقد تجاوزنا كلَّ تلك الظروف وأنجزنا العملَ الذي نرى أنه أمرٌ مهمٌّ للكاتبِ والقارئ والتاريخ. فأنتَ تكرم المفكرَ الراحل بأن تنشر أعمالَه الكاملة وتخدم القارئ بتيسير الوصول إليها. والتكريم أشكالٌ وأنواع.. فقد أطلقنا سابقاً اسم "مدني صالح" على قاعة في قسم الفلسفة في ظرفٍ صعب جداً. مع العلم أنه لم يطلب من أحد أن تُسمى باسمه قاعة أو أي شيء آخر، ولم يطلب أو حتى يُلمِّح أن يُكتب عنه. وما أكثر مَن يطلب أو يُحرج بل يُرغم!

ولد مدني صالح في مدينة هيت عام 1932، وأكمل دراسته الابتدائية في مدرسة هيت الابتدائية عام 1944، بعد أن أكمل دراسته الملائية في المدرسة الفاروقية في جامع هيت الكبير. نُشرت مقالته الأولى في مجلة الطالب المصرية وهو في الصف الثالث في ثانوية الرمادي عام 1946 وكانت بعنوان "نسلم ويسلمون خير من نسلم ويأثمون". أكمل الثانوية العامة في ثانوية الرمادي عام 1948-1949، ودخل كلية الآداب - جامعة بغداد عام 1949 وهي السنة نفسُها التي تأسست فيها كلية الآداب جامعة بغداد. حصل على شهادة البكالوريوس من قسم الفلسفة كلية الآداب جامعة بغداد عام 1953 بتقدير امتياز وكان الأول على أول دورة فلسفية في العراق.

مارس التدريس في التعليم الثانوي عام 1954- 1955- 1956. أرسل في بعثة علمية إلى جامعة كيمبردج في المملكة المتحدة عام 1957، وعاد إلى العراق عام 1965 ومعه إجازة للتدريس في الجامعات العراقية. عُين مدرساً مساعداً في جامعة بغداد كلية الآداب قسم الفلسفة عام 1965. عمل أستاذاً للفلسفة المعاصرة في كلية الفقه في النجف الأشرف نهاية الستينيات من القرن المنصرم، وعمل أستاذاً زائراً للفلسفة في جامعتي الجزائر وقسطنطينية عامي (1971-1972)، (1972-1973). أصبح أستاذاً مساعداً للفلسفة الإسلامية في جامعة بغداد عام 1975. حصل على مرتبة الأستاذية في الفلسفة الإسلامية في جامعة بغداد عام 1990.

أشرف على العشرات من رسائل الماجستير وأطاريح الدكتوراه في الفلسفة في جامعتي بغداد والكوفة، كما ناقش العشرات من رسائل الماجستير وأطاريح الدكتوراه في الفلسفة في جامعتي بغداد والكوفة. حاضر على طلبة الدراسات العليا في مادة فلسفة الإدارة في كلية الإدارة والاقتصاد جامعة بغداد أواخر التسعينيات، كما حاضر على طلبة الدراسات العليا في مادة فلسفة الجمال في كلية الفنون الجميلة جامعة بغداد أواخر التسعينيات، كما ناقش رسائل الماجستير وأطاريح الدكتوراه في كليتي الإدارة والاقتصاد وكلية الفنون الجميلة جامعة بغداد. ظل أستاذاً للفلسفة في كلية الآداب جامعة بغداد حتى وفاته عام 2007.

كتبَ مدني صالح بأكثرَ من أسلوب؛ كتب مقالةً وقصيدةً ومقامة ونقداً وبحثاً ومحاورة وبعض كتاباته لا تندرج تحت هذه الأساليب. لقد استند إلى ثقافة واسعة عميقة شرقية وغربية، فقد أحاط بثقافة العرب ولغتهم منذ الجاهلية، ونهل من ثقافة الغرب فلسفةً وأدباً وعلماً.

كتب في الفلسفة الإسلامية مجموعةَ كتبٍ ابتدأها بكتابه "الوجود" الذي كان عملاً مبكراً متميزاً، قال عنه ألبير نصري نادر في عام 1954: "أملنا أن يكون هذا الكتاب أول ثمرة نتذوقها من مجهود يخفي لنا ثمرات أخرى نتذوقها في أوانها"، وفعلاً كان لكلِّ أوانٍ ثمراته. وعَذَر مدني صالح منذ البداية تقصير بعض الناس في حق الفلسفة وذلك بسبب الإعداد التربوي الذي أغفل كونها نظرية تربوية في مفهومها العام وأنها إنسانية في موضوعها وإيجابية في أسلوبها وبنائية في مقاصدها.

 واحتل ابنُ طفيل مكانةً كبيرة عنده فكتب عنه أكثر من كتاب وبحث، وكتب عن الفارابي والغزالي وفلاسفةٍ مسلمين آخرين كانوا حاضرين في كتاباته الأخرى. واهتم بـ "المقامة" وأصبحت الأسلوبَ المفضل لديه في حقبة زمنية معينة، وقد عبَّر بها عن مسائلَ مهمةٍ في الحياة والثقافة والفلسفة وأشياء أخرى، ومنها "مقامات مدني صالح" و"برج المربد والكتابة على الماء في مدائن الندم". وكان مدني صالح مهتماً بالشعر، وكانت له محاولات شعرية مُبكِّرة أيضاً، لكنه لم يطرح نفسه شاعراً في الأوساط الثقافية، واكتفى بالنقد، وله آراء عدة في الشعر والشعراء، وقد ألَّفَ كتابين عن شاعرينِ من رواد الشعر الحر، هما بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي. وفي يومٍ ما سألْناه عن مدني صالح الشاعر، أين هو الآن من الشعر؟ (أين صفا به الدهر)؟ فقال بعد صمتٍ قليل: مِن العيب أن أكتبَ شعراً ونزار قباني موجود. وتداخَلت أساليبُ الكتابةِ عنده في المرحلة الأخيرة، وأصبحت الفكرةُ أكثرَ وضوحاً وتماسكاً وقوة. أما محاوراتُه فإنَّها لا تقلُّ أهميةً عن كتاباته، فكثيرٌ من آرائه تجدُها فيها. وقد يتدخَّلُ في الحوار أحياناً فيكون سائلاً ومجيباً، كطريقته في سلسلة "مدني صالح يحاور نفسه".

يقول مدني صالح "لو عدت لما بدلتُ ولبقيتُ على الحال التي أنا فيها لا أبدل شيئاً من أمر شرف الوقوف مع الضعفاء ومع الفقراء حتى يستغنوا، ومع المظلومين حتى ينصفوا، ومع الصعاليك الفقراء الفرسان المتصوفة العناترة الفراهدة العشاق المعاميد مهما يفعلون... ولبقيت لو عدت أكبر المتضررين بالذين لا كعابَ لهم في الثقافة ولا هم يلعبون، ولا مناجلَ لهم في الأدب ولا هم يحصدون، ويجعجعون ولا يطحنون... ولبقيت على الحال التي أنا فيها متضرراً أشد الضرر في الساحة الثقافية بذوي المواهب الصغيرة والدرجات الدنيا في الثقافة وفي الأدب:- لا أنا قادر على النفاق فأدرأ بالنفاق عن نفسي الأذى، ولا الله وهو حسبنا جميعاً يرزق الخصوم موهبة فأحمده عليها قبلهم فأدرأ عن نفسي الضرر".

قال عنه حسام الآلوسي: مدني صالح الصديق الدائم عرفته وأنا وهو تلميذان في قسم الفلسفة، وكنت في السنة الأولى وكان هو في السنة الرابعة، سيماء التزمت كانت واضحة على قسمات وجهه وإذا كان لي أن أعطي أهم خاصية لمدني الأديب والكاتب والمفكر فهي أسلوبه، أسلوب فريد متميز تستطيع أن تقرأ مقالة واحدة له باسمه ثم تقرأ ما شئت من مقالات أخرى بدون اسمه فلا تحتاج لتفكير أو تأن لأنك ستعرف أنها لمدني على التو. قرأ عليَّ "بقايا تجربة" وكان انتهى منها على التو. وهو مدرس في قسم الفلسفة وكنا نلتقي كثيراً ودفعني حماسي وإعجابي بهذا الشعر إلى أن أصفه من أوائل شعراء العراق بمقال في مجلة الآداب البيروتية وكان معي في هذا الرأي الدكتور جلال الخياط. ورأى عبد الأمير الأعسم أن مدني صالح الموهبة الوحيدة في التأثير خارج مجال التعليم الجامعية عراقياً.. وتأثير الفلسفة خارج التعليم الجامعي موهبة لا نعرفها في العراق إلا في مدني صالح. وقال جليل كمال الدين: إن مدني صالح يتمتع بخصوصيات خاصة تميز أسلوبه في البحث والدراسة والاستقصاء بأصالة ينفرد بها باحثاً ومتفلسفاً وناقداً.. ولمدني صالح في البحث الأدبي جولات وصولات فهو أحد مصادر دراسة السياب والبياتي والشعر الحديث. وقال عنه كامل مصطفى الشيبي: إن مدني صالح أشهر كُتاب المقالة عندنا اليوم فهو الطباخ الثقافي البارع الذي يقدم إلى قرائه غذاء شهياً ويحمله إليهم في قصعة هيتية طرق عليها من الخارج صورة مية التي هي في العلياء ومن الداخل في السند. وكتب مالك المطلبي: إنه الاسم الذي نزل بالفلسفة من البرج إلى الشارع ومن المطولات إلى المقالات الاسم الذي يتلقف ما يكتبه القاصي والداني من أوله إلى آخره ويستظهرونه صباحاً ويهذون به ليلاً. أما جلال الخياط فقد قال إنه من أكثر من عرفت ثقافة وعمقاً وصدقاً ورؤية ناقدة.. يلخص ويكثف رحلات فكرية طويلة بكلمات محدودة ومن أبرع من عرفت إيهاماً لآخرين لا يحبهم بغير حقيقته فيتركهم يتخبطون بأحكامهم عن شخصه وإنه متميز في كتابة النقد الإبداعي وإنه من القلة النادرة التي كرست النقد أدباً وإبداعاً إن لمدني صالح موقفاً خاصاً من اللغة وجملته متميزة ودالة عليه وهو من أبرع من قرأت لهم نثراً في إقامة علاقات غير مألوفة بين الألفاظ تجذب القارئ وتشده إلى ما يكتب فلمدني صالح أسلوبه وطرائقه المتفردة في عرض أفكاره وتوصيلها إلى المتلقي لا يعوزها تشويق ولا ترغيب: يقدح الجد بالهزل ليهز في القارئ مواطن الركود فيه. ومدني صالح مفكر يستطيع على نحو بارع جداً أن يجبر الآخرين على التفكير. وقد عدَّه جلال الحنفي رجلاً من فلاسفة هذا الجيل المعدودين جعل الفلسفة واقعاً ملموساً لدى قرائه وصيَّر منها بصائر الناس: يجول في آفاق من الفلسفة شاسعة الأبعاد والمجالات حتى كان له أن يتخذ للفلسفة لغة محببة إلى الناس غير لغة المناطقة وأهل الجدل والمناظرة فهي لغة أشبه شيء بحامل العطر إن لم تعرف أسامي الأنواع المنوعة من عطره فحسبك ما شممت من هذا الطيب والشذى.. لقد صار مدني صالح رائداً للفلسفة المعاصرة في الأخلاق والطباع واللغة.. إنه أسلوب لم يعرف لغيره من قبل.

قمنا بجمع كتاباته وقسَّمناها على ستة مجلدات بحسب الموضوعات، وقد لا تندرج بعض الموضوعات تحت صنف تقليدي ثابت واضح المعالم. واكتفينا بهذه المقدمة القصيرة ولم نضع مقدمةً طويلة لأعماله الكاملة، ولم نقدم تفسيرنا أو قراءتنا لها، وقد يكون ذلك في أعمال مستقلة عن هذه المجموعة. فضلاً عن أن هناك مقدمات لبعض كتبه موجودة في هذه الأعمال الكاملة.

author-img
فيصل غازي مجهول

تعليقات

google-playkhamsatmostaqltradent