recent
أخبار ساخنة

قبل أن يَكتبَ كتاباً في التاريخ

كُلِّفَ شخصٌ بتأليفِ كتابٍ في التاريخ كي يُدرَّس في المدارس، فقد شك المعنيون بهذا الأمر في صحة المعلومات التاريخية الموجودة في الكتب القديمة، وقبل أن يُكمل المكلَّف بهذا العمل إنجاز عمله أراد أن يعرض موضوعات الكتاب على المعنيين بالأمر، الذين هم مجموعة تمثل أدياناً ومذاهب وقوميات وأحزاباً عدة، لكي يوافقوا عليها أو يروا رأياً فيها. 

فيصل مجهول
فاجتمعوا وقالوا له: إننا بأمس الحاجة إلى كتاب جديد في التاريخ، وقد كلفناك بهذه المهمة لأنك كما سمعنا أهلٌ لها، ونحن مبدئياً متفقون على جميع مسائل التاريخ، فتاريخنا واحد ووطننا واحد وكذلك إلهنا وأمجادنا ومستقبلنا، وليس بيننا من خلاف كبير. فاقرأ لنا ما كتبته أو ما تنوي كتابته فإن كان فيه ما يدعو إلى التصحيح نبهناك، على الرغم من أننا مطمئنون فنحن متفقون، ولن يستطيع أحدٌ أن يفرقنا.

    فاستبشر خيراً لأنهم متفقون، وأخذ يقرأ عليهم ما ينوي كتابته. فقال: سأكتب أن أصل سكنة هذا البلد من جنوب الـ... فقاطعه أحدهم قائلاً: هذا لم يثبت بعد، والأكثر ثباتاً أنهم من الشرق، وقال آخر: بل من الغرب، وصاح آخر: من الشمال. وجاء كلٌّ منهم بأدلة تؤكد ما ذهب إليه. ثم اتفقوا على أن تحذف هذه الفقرة من الكتاب لأنها لم تُحسم بعد.

-قال: سأكتب عن الدين الذي انتشر في هذا البلد من عام كذا إلى كذا أنه دين عظيم... فاعترض معترضٌ: ماذا تقصد بأنه دين عظيم؟ أتريد أن تساويه بالأديان العظيمة الأخرى؟ اكتب إنه أعظم الأديان وأحسنها وأفضلها وأنفعها. وقال آخر: لِمَ هذا التفضيل وهو ليس دين الجميع؟ إنما هو دين كبقية الأديان، وأعظم وأحسن وأفضل... مسائل نسبية. وصاح آخر: بل يبقى هذا الوصف كما هو، لأنه الأعظم فعلاً، وإذا أردتَ أن آتيكَ بألفِ دليلٍ على هذا فعلتُ، فأجابه: أنا أيضاً قادرٌ على أن آتيك بألف نقدٍ لأدلتك هذه. واشتد النقاش بينهم، وحاول أحدهم أن يخفف من حدة النقاش فاقترح أن تُكتب جميع الآراء بلا استثناء لأنها وجهات نظر مهمة وليختر القارئ منها ما يريد. فاعترض آخر قائلاً: هذا يعني أنك غير مطمئن لأي رأي من الآراء وكلها عندك متساوية. وأيُّ كتابٍ هذا الذي سيذكر كل هذه الآراء؟ سيكون ضخماً جداً ولا ينفع القارئ العام فكيف بطالب المدرسة؟ ثم اتفقوا على أن تحذف هذه الفقرة من الكتاب حتى ينتهوا من تحديد معنى الأفضل والأعظم...

-قال: كانت المدة التي حكم بها فلان وفلان وفلان... من أفضل حقب تاريخ هذا البلد، وقد ضُرب المثلُ بعدلهم وإنصافهم. فاعترض شخص: من قال إنها أفضل؟ ألا يوجد تمييز بينهم؟ وكيف نشأت كل تلك المشكلات التي بُنيت عليها مشكلات أخرى أعقدُ منها لولا أنهم ظَلَمةٌ ليس بينهم وبين العدل من صلة؟

-إنهم أعدل الناس وأفضلهم وهم رموز للخير.

-بل هم أكثر الناس ظلماً وهم رموز للشر.

-ماذا أكتب: كانوا عادلين ظالمين وخيرين أشراراً؟

-أتريد أن تجمع بين الأضداد؟ صفهم بصفاتهم الحقيقية.

واحتدم النقاش بينهم على سيرة أولئك الأشخاص وما قاموا به من أعمال، هذا يرفعهم إلى الملائكة وذاك يخفضهم إلى الشياطين. ثم اتفقوا على أن تحذف هذه الفقرة من الكتاب حتى يتوصلوا إلى الصفات التي ينبغي أن يوصفوا بها.

-سأكتب بعد أسماء فلان وفلان وفلان... صفاتٍ وجملاً تميزهم من غيرهم من الناس، فهم مقدسون أو أقرب إلى المقدسين قد رضيَ الله والناس عنهم، وليس من اللائق كتابة أسمائهم عارية. فقال شخص: إذا فعلتها فاكتبها للجميع من دون استثناء. فاعترض عليه أحدهم: وهل تساوي بينهم هكذا من دون ضوابط؟ وأين تضع أولئك الذين لم يكونوا مقدسين بعرفنا، وقد غضب الله والناس عليهم؟

-نعم، اكتب الملعون فلان.

-كلا، بل المرحوم فلان.

-اكتب رحمه الله.

-بل لعنه الله...

-الأفضل أن تكتب لعنه الله في الدنيا والآخرة.

-ينبغي أن تجردهم جميعاً من جميع الصفات، فهو كتاب في التاريخ وليس في الدين. واعترض آخر على هذا الرأي لأنه استخفاف بهذه الشخصيات. ثم اتفقوا على أن تحذف هذه الفقرة من الكتاب حتى يتبين لهم المرحوم من الملعون، ويفرقوا بين حبيب الله وعدو الله.

-سأكتب: نشأت الحركات الثورية في عام... فقاطعه أحدهم: بل اكتب الحركات الهدامة.

-بل هي فرق ضالة خربت الدين والدنيا.

-كلا، إنها تحررية واشتراكية أصلحت الدين والدنيا... ثم اتفقوا على أن تحذف هذه الفقرة من الكتاب حتى يجدوا تعريفاً جيداً للحركات والطوائف والفرق، الثورية أو الهدامة أو التحررية...

-سأكتب عن بلدنا أنه احتل البلدان المجاورة في عام...

-مهلاً، لم يكن احتلالاً بل كان فتحاً.

-إنه استعمار.

-ليس استعماراً بل هو نصرة للمظلومين... وقد انتصر.

-بل هو غزو. ولم ينتصر بل هُزم أو خسر... ثم اتفقوا على أن تحذف هذه الفقرة من الكتاب حتى يميزوا بين الاحتلال والغزو والاستعمار والفتح، والنصر والهزيمة.

-سأكتب لقد قام الناس بثورة كبيرة أطاحت بـ...

-لا تقل الناس، بل قل بعض الناس، أو شرذمة أو رعاع.

-نعم، لم تكن ثورة ولم يقم بها ثوار، بل هو انقلاب وقام به انقلابيون والناس لا يعلمون.

-أتنكرون أنها أصلحت كثيراً من الأمور.

-بل أفسدت ما كان صالحاً.

ثم اتفقوا على أن تحذف هذه الفقرة من الكتاب حتى تتم التفرقة بين الثورة والانتفاضة والانقلاب والإصلاح والإفساد.

-سأكتب إن هناك أقليات تقدر أعدادها بكذا وكذا...

-من أين جئتَ بهذه الأرقام الكاذبة، إن هؤلاء الذين ذكرتم قد كانوا أضعاف هذا العدد.

-كيف تصف أولئك بالأقلية وهم الأكثرية؟ إنه تزوير تحريف كذب...

ثم اتفقوا على أن تحذف هذه الفقرة من الكتاب حتى يتم إحصاء سكاني شامل لجميع الذين ماتوا قبل مئات السنين.

-قال: سأكتب لكم ورقة أطلب فيها الانسحاب من تأليف هذا الكتاب، وأتركُ الأمر لكم فاكتبوا ما تشاؤون فأنتم أعلم مني بالأمور.

وخرج صاحبنا من الاجتماع وترك بين أيديهم مسودة الكتاب بعد أن أخذ منها الفقرات المحذوفة.

-قالوا: أما قلنا له إننا مبدئياً متفقون على جميع مسائل التاريخ وليس هناك من خلاف كبير بيننا فتاريخنا واحد ووطننا واحد وكذلك إلهنا وأمجادنا ومستقبلنا؟ لقد أراد هذا المؤلف أن يفرق بيننا، أنظروا إلى مسودة الكتاب، إنه لم يكتب شيئاً، ترك لنا أوراقاً فارغة، لقد خَدعنا. ثم اتفقوا على أن يكلفوا غيره للقيام بهذه المهمة بعد أن تبين لهم أنه ليس أهلاً لها.

فيصل غازي مجهول

(نجم المشرق، العدد (49)، السنة الثالثة عشرة (1) 2007)

author-img
فيصل غازي مجهول

تعليقات

google-playkhamsatmostaqltradent