recent
أخبار ساخنة

بينه وبين القبر خطوة واحدة

كان جدي من بين الأطفال الذين منعهم الشيخ العجوز من اللعب، لأن عليهم أن يتعلموا الجد لا اللعب. أرادوا أن يثبتوا له أن من حقهم أن يلعبوا، فاعترض الكبار ومنعوهم من الكلام، وقالوا: كيف تريدون أن تعترضوا على الشيخ بمثل هذا الكلام؟ إنه شيخ كبير وقور، قد عرف ما لا نعرف، ومر بتجارب كثيرة، وعليكم أن تحترموا الكبار، ألا تخجلون؟ إنه رجل عجوز ليس بينه وبين القبر إلا خطوة واحدة.

كبروا، وكبرت مضايقات الشيخ لهم، كان يتدخل ويتحكم في كل شيء في حياتهم. وله عذره، لأنه الكبير وهم الصغار، وأنه العالِم وهم الجهلة. أرادوا أن ينقدوا بعض أفكاره فاعترض أهلهم وقالوا: ما لكم ولهذا الشيخ الجليل الكبير؟ لكم الحرية في نقد كل شيء سوى أفكاره. فخجلوا من أنفسهم، وخشوا أن يموت الشيخ فيندموا على ما فكروا فيه.

كان الشيخ يمنعهم من أية لعبة يحبونها، لأنها تُذهب بوقارهم، وما كانوا يعرفون معنى كلمة "الوقار". أرادوا أن يبنوا ملعباً، وقيل لهم إن الأرض ملك للشيخ، وهو لا يحب الملاعب، وإذا أردتم أن تبنوا ملعباً فابتعدوا عن أراضي الشيخ. وابتعَدوا فعلاً، لكنهم وجدوا أن جميع الأراضي ملكٌ للشيخ، وأقرب أرضٍ لا يملكها تابعةٌ لشيخٍ آخر مثله أو أسوأ منه قليلاً. فنصحهم الكبار الذين يتعاطفون معهم بأن ينتظروا، فليس بين الشيخ والقبر إلا خطوة واحدة.

ماذا يفعلون واللعب يلح عليهم؟ ماذا يفعلون واللعب فطرة في كل كائن لبون، من الدولفين إلى الإنسان؟ اخترعوا لعبة جديدة، لكنها سرية. لقد حفروا حفرةً أطلقوا عليها اسم "قبر الشيخ"، وأخذوا يتضاربون ويتدافعون، والخاسر هو من يسقط في الحفرة، والرابح يصيح: مات الشيخ. والغريب أن أحداً منهم لم يسقط في الحفرة، ولو كان شيخاً رمزياً مجازياً تأويلياً تشبيهياً. وفشلت اللعبة.

على الرغم من كل محاولات منع الموسيقى، فإنها باقية. وقد دفعتهم الرغبة إلى أن يتعلموا العزف على الآلات الموسيقية، فقبل أهلهم. لكن الشيخ قد سمع الخبر قبل أن يشتروا الآلات. ولم يدروا كيف سمع الشيخ هذا الخبر، وهو كثير الشكوى من ضعف السمع؟! قال: إذا علمتُ أن آلة موسيقية قد دخلت في دياركم فسأكسرها على رؤوسكم ورؤوس أهلكم. وقال بعض الناس لقد صدق الشيخ، فهذه الآلات تفسد الصغار والكبار. وقال آخرون معتدلون: اصبروا.. إنا لا نريد أن نهين الشيخ في كبره، ولن تنفذ الآلات الموسيقية من السوق، وستحصلون على أحسن منها في المستقبل الذي هو لكم. لا تستعجلوا، فليس بينه وبين القبر إلا خطوة.

كبروا أكثر، وتركوا اللعب والموسيقى، وأرادوا أن ينشئوا مكتبة تضم كتباً جديدة تشبع رغبتهم في القراءة. وساعدهم في المشروع قلة، أما الكثرة فلم تساعدهم، لأن مصادر التمويل كلها مرتبطة بالشيخ، وقالوا لهم إن الشيخ دينٌ وتراث ومال، وقد ألَّفَ كتاباً نافعاً لكل زمان ومكان، فاقرؤوه قبل أن يموت ولا تستطيعون سؤاله عن شيء، فليس بينه وبين القبر إلا خطوة. فقرؤوه وأخضعوه للتفسير والتأويل، وأخرجوا من كومة أفكاره – بعد جهد جهيد من الغربلة – حبتين أو ثلاثاً يمكن أن تكون نافعة، نافعة لمن؟ لعصفور صغير في عالم المعرفة.

وانتشر بينهم وباء قتل نصفهم، وكان جدي من بين الموتى، وأرادوا أن يجلبوا اللقاح فمنعهم الشيخ، لأن لديه لقاحاً ضد كل مرض أو وباء، لقاحُه كلماتٌ يقرؤها فتُشفي المريضَ وتُنزل المطر وتُغني الفقير وتُقرِّب البعيد. فقرروا أن يثوروا عليه وعلى لقاحاته، فأسكتَهم النصف الناجي من الموت بأن لقاح الشيخ قد أنقذنا، ولولاه لكان الموت مصير الجميع. لقد نجوتُم بفضله، فارحموا الشيخ الذي ليس بينه وبين القبر إلا خطوة.

صاروا كبار السن، ودفنوا أصدقاء وأقرباء لهم أعزاء، أُصيب بعضهم بأمراض مزمنة، وتراخت عضلاتهم وأعصابهم، وأصبح الموت قريباً منهم. فأرادوا أن ينقدوا الشيخ قبل وفاتهم. فقيل لهم: مهما كبرتُم فإن الشيخ أكبر، ألا تحبون أن يحترمكم الناس كما يحترمونه وليس بينكم وبين القبر إلا خطوة؟ اذهبوا وقبلوا يد الشيخ قبل أن يموت وقبل أن تموتوا، كي تنتقل أرواحكم إلى السماء مباشرة بلا مطهر ولا عذاب قبر؟

قال أحدهم: ربما نال هذا الشيخ الخلود الذي لم ينله جلجامش، وقال آخر: كلا، فكلُّ إنسان فانٍ، لكن أجله لم يأتِ بعد. وقال أبي: لدي تفسير علمي، إن بين الشيخ والقبر خطوة واحدة، لكنه لا يقوى على السير بسرعة، وهو يقطع كل سنتمتر بعشر سنوات. ثم مات أبي وصلى الشيخ عليه. وعانيتُ من الشيخ أضعافَ ما عانى أبي وجدي، لكني طورتُ نظرية أبي واكتشفتُ أن الشيخ يقطع كل مليمتر بعشر سنوات، وأن المليمتر يتمدد مع تمدد الكون. وقد كبرتُ ولم يبقَ بيني وبين القبر إلا خطوة، فقلتُ لأحفادي الذين يعانون الآن من هذا الشيخ: انتظروا قليلاً فليس بينه وبين القبر إلا خطوة واحدة.

فيصل مجهول

(نجم المشرق، العدد (63) السنة السادسة عشرة (3) 2010).

author-img
فيصل غازي مجهول

تعليقات

google-playkhamsatmostaqltradent