أسهم المسيحيون قديماً في صناعة التاريخ الثقافي العربي، وليس من السهولة أن يقارن المسيحيون في العراق بأقليات أخرى لا يعرفها إلا المختصون في شؤون المجتمع، فالأقلية من حيث العدد تختلف عن الأقلية من حيث الإسهام والإنجاز الثقافي، وحديث السياسة يختلف عن حديث الثقافة والتاريخ. وقد برزت أهميتهم في مجالات ما كانت الأكثرية تجيدها، وكان ذلك في بداية الدولة الإسلامية، ثم كان لهم دورهم الكبير في الترجمة، إذ كانوا يجيدون لغات عدة، فهيؤوا مادة علمية وفلسفية انتفع منها العلماء والفلاسفة اللاحقون.
لقد
برعوا في المجالات المتاحة لهم، إذ عادةً ما تُمنع الأقليات من الدخول في بعض
المجالات كالعمل السياسي، وقد يُستشارون في أحسن الأحوال. وعندما تكون الأكثرية
سلطة تصعب مقاومتها، فإن الأقلية تميل إلى التحفظ والتستر، لذا ترى الأقليات قد
حافظت على نفسها وثقافتها ودينها ولغتها بهدوء ومن دون مجابهة مباشرة.
وللمسيحيين
في النهضة العربية الحديثة دور فعال وإسهامات مهمة، لاسيما في بلدان كالشام ومصر.
لكن هناك فرقاً عندما نتكلم عن المسيحيين نسباً دينياً والمسيحيين نسباً اجتماعياً،
وهذا ما ينطبق على المسلمين أيضاً. وعلينا أن نتأنى في اختيار الصفة المناسبة التي
نصف بها المفكر، فهل نُسقط كل ما صنعه بنفسه ونُبقي صفةً لم يصنعها وربما لم
يردها؟
من
بين من برز في عالم الثقافة من رجال الدين المسيحيين العراقيين الأب يوسف حبي (فاروق
داود يوسف حبي)، المولود في الموصل عام 1940 (أو 1938 برواية أخرى)، والمتوفى في 15/10/2000
بحادث سيارة في الأردن. وقد كانت وفاته صدمة للأوساط المسيحية والثقافية، فليس من
السهولة أن تخلق الظروف رجلَ دين موهوباً منتجاً محبوباً مقبولاً في أوساط عراقية
وعالمية.
ودعتُه
في اليوم نفسه الذي سافر فيه سفرته الأخيرة، وكنتُ في كلية بابل صباحاً عندما
خبروني أنه قد توفي إثر حادث، وبقينا ننتظر جثمانه وسط تحليل وتخمين. ثم وصل
الجثمان وتم التشييع، ومن ثم التأبين في كنيسة ماركوركيس، وقد ألقيتُ كلمة فيها. ومن
الصعب أن تتصور أن كل تلك الحركة تنتهي إلى سكون، إنه شعور يتكرر مع كل حادث وكل
مفاجأة وكل شخص فعال. ربما كان الموت من الحقائق الواضحة، فكل حي يموت، لكنه من
الحقائق المحيرة المربكة المزعجة. نتذكره عند فقد عزيز يترك فراغاً، نتأمله عندما
يكون نهاية لشخص نعرفه.
الأب
يوسف حبي علمٌ من أعلام العراق، ألف وترجم وترأس هيئات ومؤسسات عدة، وكان يدير كل
ذلك بجد ونشاط عاليين. جمعتني به علاقة طيبة في السنوات الأخيرة من حياته، وكانت
معرفتي به لأول مرة عام 1997 في مكتبه بكلية بابل للفلسفة واللاهوت، ذلك المكتب
الذي تجده كومةَ كتب وأوراق ولوحات وقد اختلط الكل بالكل. فقد كان يعمل في مشاريع
عدة، بعضها يرتبط بالكنيسة، وبعضها الآخر ببيت الحكمة والمجمع العلمي العراقي
ومجلات ومؤسسات عدة في الداخل والخارج. كان يحاول أن يغطي مجالات كثيرة وكأنه في
سباق مع الموت. فتراه مرةً يكتب في التاريخ القديم ومرةً يحقق كتاباً وأخرى عن
مسألة أثرية أو عن قضية في المسيحية... قد يكون هذا تشتتاً إذا قيست الأمور
بالتخصص الدقيق والتعمق في مسألة واحدة، لكن إذا أخذنا بالحسبان الرغبة الشخصية
والموهبة والقدرة فستصبح المسائل اعتيادية، وليس صحيحاً أن يُقاس الموهوب على غير
الموهوب، والنشيط على الخامل. لقد أراد أن يخلق حركةً ثقافية عراقية، ولم تكن صفة
"رجل دين" عائقاً أمام هذا الهدف، بل بالعكس كانت ميسراً له. وما أكثر
الفروق بين رجال الدين!
من المصادفات أن رسالتي في الماجستير كانت أول رسالة ناقشها في جامعة بغداد، وآخرها كانت رسالتي أيضاً. وكان في المناقشات ميالاً للاختصار، يركز في مسائل مهمة ويكتفي بالسؤال عنها ثم يُنهي المناقشة، وهذا ما لم نعتده في المناقشات. لم يكن في المناقشة استعراضياً، فلو أراد أن يستعرض معلوماته في موضوعات الفلسفة واللاهوت والتاريخ والقانون لما اتسع له الوقت.
توطدت
علاقتي به أكثر في كلية بابل، وما كانت مسألة الانتماء تهمه، بل أراد لها أن تكون
تجربة ثقافية فريدة تجمع بين طلبة طوائف عدة. وقد سار على نهجه المطران جاك إسحاق،
مع أن لكل منهما طريقته في الإدارة وشخصيته وأسلوبه. ويبدو أن القوة العقلية
والاطمئنان المعرفي والثقة بالنفس والامتلاء الثقافي والعمق الفكري... تجعل الشخص
منفتحاً متسامحاً غير متعصب. إنه ينتمي إلى جماعة مثقفة، من رجال الدين المسيحيين
العراقيين، لا تعلي من شأن طائفة لأنهم ينتمون إليها، ولا تتحدث عن كنائس بل
كنيسة، وتحاول جاهدة أن تخفف من الفروق مع احترام الخصوصية، ولها أهداف إنسانية
أكثر منها دينية، أو ربما توحد بين الهدف الديني والهدف الإنساني. وهذا ما جمعهم بكل
ذي ميل واتجاه لا يقترب من الدين بمفهومه التقليدي كثيراً.
كان رمزاً للنشاط والفاعلية، داعياً للسلام، منفتحاً على الآخر، مرحباً بالجديد، ساعياً إلى التطوير، حلقة وصل بين أشخاص ومؤسسات عدة، ساعياً إلى التقريب بين وجهات النظر، باحثاً في المشترك بين الناس، بعيداً عن التعصب والانغلاق، أبويَ التعامل مع الجميع.
إن
من بين محبيه الكثيرين الأخت ماركريت شمعون التي زودتني بسيرة مختصرة له كان قد
كتبها بيده، ولم أغير فيها إلا القليل.
- درس المرحلة الابتدائية في الموصل، ومعهد شمعون الصفا الكهنوتي عام 1950-1954.
- درس
الفلسفة واللاهوت في الجامعة الأوربانية (Pont. Univ.
Urbaniana) (روما)، عام 1955-1962، وحصل على شهادة ليسانس في الفلسفة
وليسانس في اللاهوت.
- درس
القانون الكنسي في جامعة اللاتران (Pont. Univ.
Lateranum) وحصل على شهادة الدكتوراه في حزيران 1966.
- حاصل
على شهادة الدبلوم في المريميات من جامعة مار يانوم (Pont.
Univ. Marianum)، ودبلوم في الإلحاد من الجامعة الأوربانية،
ودبلوم في الاجتماعيات الراعوية من جيسيك (C. I. S. I.
C.)، ودبلوم في وسائل الاتصال من جامعة برو ديو (Univ.
Pro Deo). ودكتوراه فخرية في اللاهوت من معهد اللاهوت في السويد.
- يتقن اللغات الآتية: العربية، السريانية، الإيطالية، الفرنسية، وأقل من هذه اللغات: الإنجليزية، اللاتينية، الألمانية. مع إلمام بالعبرية واليونانية.
- شارك في مؤتمرات عالمية وندوات فكرية عدة (نحو خمسين) وقدم بحوثاً كثيرة في معظمها، وذلك في العراق، لبنان، الأردن، مصر، سوريا، تركيا، الدانمارك، ليبيا، إيطاليا، فرنسا، ألمانيا، هولندا، بلجيكا، اسبانيا، السويد، انجلترا، الهند. وقد حاضر وألقى دروساً في معظم البلدان المذكورة، وأجرى مقابلات تلفزيونية وإذاعية وصحافية.
- عضو مجمع اللغة السريانية (منذ 1972)، عضو المجمع العلمي العراقي (منذ 1978).
- عضو المجمع العلمي (بعد تجديده عام 1996). رئيس هيأة اللغة السريانية (منذ1996). مسؤول دائرة الفلسفة وعضو دائرة العلوم الإنسانية ودائرة المصطلحات في المجمع. عضو نقابة الصحفيين (1972).
- رئيس تحرير مجلة "بين النهرين" الفصلية الحضارية منذ تأسيسها عام 1972، وقد كتب فيها منذ ذلك التاريخ افتتاحيات وبحوثاً.
- عضو اتحاد الأدباء والكتاب في العراق، وأحد أعضاء اللجنة المركزية عدة سنوات، عضو اتحاد الأدباء العرب، عضو الجمعية الفلسفية، عضو جمعية الباراسيكولوجي، عضو اتحاد المؤرخين العرب، عضو هيأة المؤتمرات السريانية في العالم، عضو هيأة مؤتمرات وندوات التراث السرياني (لبنان)، عضو جمعية القانون الشرقي، عضو رابطة معاهد وكليات اللاهوت في الشرق الأوسط، أمين سر بطاركة الشرق الكاثوليك.
- النائب البطريركي للكلدان للشؤون الثقافية، عميد كلية بابل للفلسفة واللاهوت (منذ تأسيسها عام 1991)، رئيس محكمة الاستئناف الكنسية في العراق منذ 1990.
- كاهن منذ 20/12/1961. عمل في عشرات اللجان الكنسية في الموصل وبغداد، واختص بالشبيبة والتثقيف، وخدم في خورنة كاتدرائية مسكنته وأدار كنيسة مار أفرام في الموصل من 1976 ولغاية 1990، عدا عامي 1986-1987 حيث تولى مسؤولية كنيسة الانتقال في دهوك، ثم أصبح مسؤولاً منذ عام 1990 عن كنيسة الحكمة الإلهية (الصليخ)، والخوري المسؤول لكنيسة مار كوركيس (الغدير) منذ عام 1996.
- أشرف على أطاريح ماجستير ودكتوراه في روما، ناقش في كلية الآداب، جامعة بغداد ثلاث رسائل ماجستير وخمس أطاريح دكتوراه. حاضر خمس سنوات في جامعة الموصل، كلية الآداب (لغة سريانية، ولغة فرنسية). عمل على صيانة أكثر من كنيسة قديمة في الموصل (كنيسة الطاهرة، كنيسة شمعون الصفا، كنيسة مسكنته). صاحب فكرة "موسوعة كنائس المشرق".
- استحق أكثر من شكر وتقدير من المعهد الشرقي في روما، عدة جامعات وجمعيات أجنبية، وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، الاتحاد العام للكتاب والمؤلفين في العراق.
المؤلفات والتراجم
·
الدير الأعلى وكنيسة
الطاهرة، (الموصل 1969)
·
يسوع حياتي، (الموصل
1969)
·
طريق الفرح، لويس
ايفلي (ترجمة) (الموصل1972)
·
حنين بن اسحق، (وزارة
الثقافة والإعلام، بغداد 1975)
·
تاريخ ايليا
برشينايا، (ترجمة وتعليق)، (بغداد 1975)
·
كتاب الآثار العلوية
لحنين، تحقيق بالاشتراك مع حكمت نجيب، (بغداد)
·
كتاب المولودين
لحنين، المجمع العلمي العراقي، (بغداد 1978).
·
علوم البابليين،
مرغريت روثن، (ترجمة)، (وزارة الثقافة والإعلام، بغداد 1980).
·
الإنسان في أدب وادي
الرافدين، (الموسوعة الصغيرة، بغداد 1980).
·
كنائس الموصل، عربي
إنجليزي (بغداد 1980)
·
تواريخ سريانية،
ترجمة وتعليق، المجمع العلمي العراقي، بغداد 1982)
·
نيران، (بغداد 1980)
·
رحلة اوليفييه إلى
العراق، (ترجمة وتعليق)، (المجمع العلمي العراقي، بغداد 1988)
·
كنيسة المشرق، ج1،
(بغداد 1989)
·
كتاب الدلائل للحسن
بن البهلول، تحقيق وتعليق، (معهد المخطوطات العربية 1987)
·
فهرس المؤلفين لعبد
يشوع الصوباوي، تحقيق وترجمة وتعليق، (المجمع العلمي العراقي، بغداد 1986)
·
خلجات، (بغداد 1995)
·
نشوة القمم، (بغداد
1996)
·
مجامع كنيسة المشرق،
(ترجمة وتعليق وبحوث)، (الكسليك، لبنان 1999)
·
علم آثار بلاد
الرافدين، جان كلود ماكرون، (ترجمة) (الموسوعة الصغيرة 252، بغداد 1986)
·
ملحمة الثمانين،
(وزارة الثقافة والإعلام، بغداد 1986)
·
قصائد إيطالية،
(ترجمة وتعليقات ونبذ)، (بغداد 1995)
·
دير الربان هرمزد،
(بغداد 1980)
·
دير مار كوركيس،
(بغداد 1980)
·
دير مار ميخائيل،
(بغداد 1986)
·
الشموع الأولى،
(بغداد 1998)
نشر
أكثر من 350 بحثاً في مجلات عراقية، عربية، عالمية، بالعربية خاصة، والفرنسية،
والإيطالية، والإنجليزية، ونصوص بالسريانية ولغات أخرى، وترجمات، تتناول: حضارة
العراق القديمة، الفكر الفلسفي، اللاهوت، تاريخ كنيسة المشرق، الأدبيات السريانية،
مسيحية العراق والشرق الأوسط في الظروف الراهنة. وكذلك المساهمة في كتب جماعية،
وموسوعات عالمية.
ومن
أهم المجلات التي نشرت فيها هذه البحوث:
المجلات
العراقية: مجلة المجمع العلمي (العربية، السريانية، والكردية)، المورد، آفاق
عربية، التراث الشعبي، الأقلام، الموقف الثقافي، الجامعة (الموصل)، اتحاد الأدباء
والكتاب، قالا سوريايا، الكتاب السرياني، الفكر المسيحي، نجم المشرق، وخاصة مجلة
بين النهرين كرئيس تحرير لها.
المجلات
العربية: المسرة، الرسالة، الحكمة، المشرق، اللقاء، النشرة السريانية، حياتنا
الليتورجية، Parole de l’Orient, Proche Orient Chertien
،
بالإضافة إلى مجلات أجنبية. وله أكثر من خمسين مادةً في موسوعات عالمية.
د. فيصل غازي مجهول
(مجلة مسارات، العدد (14) 2010).