recent
أخبار ساخنة

مدني صالح بعد خراب الفلسفة

أنشأ مدني صالح في عالمنا الفلسفي المحدود نصاً متميزاً محركاً موحياً لا يُضعفه إلا جمعه بنصوص أخرى ليس بينه وبينها من صلة سوى صلة الزمان. مدني صالح المنتمي إلى الفلسفة من خلال نقدها، وهو في نقده أكثر انتماء لها من المدافعين عنها دفاعاً قبلياً عشائرياً ساذجاً.

مدني صالح

لم يطلب مدني صالح أن يُكتب عنه، لأن بضاعته لا تحتاج إلى دعاية، لكنه لا يستطيع أن يمنع. فكثيرٌ من شرح النصوص وتفسيرها وتأويلها تشويه.

عنوان يصدم.. "بعد خراب الفلسفة"... فمتى كانت عامرة؟ وكيف خربت؟ وماذا بعد خرابها؟ صدر كتاب "بعد خراب الفلسفة" عن دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت، الطبعة الأولى (2009)، في سلسلة كتاب دوري "فلسفة وتصوف" التي يصدرها مركز دراسات فلسفة الدين، رئيس التحرير الدكتور عبد الجبار الرفاعي المفكر المهتم بإظهار المنجز الفكري العراقي الساعي إلى نشره في كل مكان.

قال المعد والمقدم للكتاب "إن مدني صالح ليس أديباً وشاعراً بارعاً وكاتباً في شؤون الفلسفة فقط، لا بل إنه فيلسوف...". وإذا كان المقدم قد استعمل كلمة فيلسوف، فإن مدني صالح لم يكن مهتماً بأن تضعَ قبل اسمه كلمة "فيلسوف" التي لا يزيده وضعُها شيئاً ولا تُفرحه حياً وميتاً، ولا يُنقص حذفُها منه شيئاً ولا يحزنه حياً وميتاً، ولا تشكل عنده قضية تستحق الدفاع قبل خراب الفلسفة أو بعد خرابها.

مدني صالح

تختلف قراءة نص مدني صالح، كأي نص آخر، بين عين تؤمن بموت المؤلف، وعين تؤمن بتأثير الأحداث. قراءة تستنهض كل ما تعرفه عن مدني صالح شخصاً ونشأةً وظرفاً اجتماعياً سياسياً اقتصادياً... لفهم النص. وقراءة أخرى للنص نفسه من دون مؤثرات خارجية.

لكنا لا نستطيع – وأقصد بعض من يعرفه معرفةً شخصية – أن نصفي أذهاننا تماماً مما هو خارج النص. فمن أين لنا أن نعرف أنه في هذه الفقرة كان كئيباً، وفي تلك مبالغاً، وأخرى محتاجاً، وغيرها دقيقاً؟ لأننا نعرف شيئاً عنه. فهو مرسل نص ونحن المستقبلون، لكن الفرقَ أن المُرسل معلومٌ عندنا. ليس براعةً منا، بل مصادفة، وميول وأهواء مشتركة. فقد فك لنا رموزاً، وأعطى مفاتيح، وعشنا معه بعض لحظات إنشاء النص. إننا لا نكوِّن صورةً عنه من خلال النص فقط، كما نكون صورة عن كاتب قديم من نصوصه. فنحن أمام طريقين، إما أن نخلق صورةً للكاتب من خلال نصه، أو ننير النص بما نعرف عن الكاتب (أو نجعله مظلماً بمعرفتنا أيضاً).

إلى أي مدى تكون المعرفة الشخصية بصاحب النص نافعة؟ لا بل ما معنى النفع؟ قد يكون ضرر تلك المعرفة أكبر من نفعها للكاتب وللنص معاً. فمعرفةُ الحسود الذي زامله وصاحبه في يومٍ ما تختلف عن معرفة الذي يُقدر إنتاجه بلا حسد، وإن لم يلتقِ به إلا مرات معدودة. ومعرفة الذكي تختلف عن معرفة الأقل ذكاء. ومعرفة المستفيد منه عملياً ليست كمعرفة المتأثر بفكره. ومعرفة المحب له - لأنه ابن مدينته – لا تشبه معرفة المحب البعيد عن مدينته، أو ديانته أو قوميته (إن كانت تنطبق عليه). وهدف الباحث يختلف عن هدف الإعلامي... هذه كلها زوايا للنظر، تقدم في المعرفة وتؤخر! وكلٌّ يرسم صورة قد تكون أجمل أو أكبر أو أصغر، ولن تكون متطابقة، إذ لا معنى للتطابق.

لم أذكر هذه المسائل عن النص ومعرفتنا بصاحب النص إلا تنبيهاً إلى أن المعرفة الشخصية لشخص ما أو حدثٍ ما تبقى نسبية. وخذها من معرفة الناس بحقبة زمنية معينة أو لمكان ما. فيصفون لك تلك الحقبة بأنها زمن الخير، ويصفها ملايين بأنها زمن الشر، ويقولون لك إن هذا المكان هو جنة على الأرض، ويقول غيرهم إنه الجحيم. ولك أن تضيف ما شئتَ من الأضداد.

لقد خلق مدني صالح تلامذة، وإني لأتذكر في إحدى مناقشاته استشهاده وتحويره لبيت الفرزدق: "أولئك طلابي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا فلانُ المجامع". لقد أحب هؤلاء الطلبة وأحبوه، والأسباب مختلفة؛ منها التأثر بموقف أو فكر أو سلوك أو شخصية...

كتب الدكتور محمد فاضل عباس: "هذه إذن أبحاث للأستاذ مدني صالح اتفقنا أنا وهو على جمعها وتصحيحها وتحريرها ونشرها في كتاب وكان مدني صالح حائراً في عنوان هذا الكتاب بين (في مهب العاصفة) و(بعد خراب الفلسفة) فوافته المنية قبل أن يرى هذه الأبحاث كتاباً فأخذنا على عاتقنا هذه المهمة واخترنا (بعد خراب الفلسفة) عنواناً لها، وجاء عنوان (في مهب العاصفة) ليتصدر أغلب عناوين هذه الأبحاث ولم تكن المسألة إلا قريبة كل القرب من رغبة المؤلف، لا بل كان راغباً كل الرغبة في أن تخرج هذه الأبحاث بهذا الشكل". لقد قام د. محمد فاضل بإعداد هذا الكتاب على وفق ما يراه مدني صالح، وإذا اختلفت الروايات عن مدني صالح وكان محمد فاضل أحد الرواة فكفته أرجح. فهو أعلم الناس بما ظهر من مدني صالح وما خفي، وأوفاهم له حياً وميتاً. ولولا أني كاتبُ هذا المقال لنافستُه أو قاسمته بأشياء عدة؛ بمعرفة، تلمذة، ذكريات، مواقف، اعترافات، صداقة... وكيفما كانت القسمة فلن تكون متساوية. فقد تضاءل ما عندي وصغر بل تلاشى أمام حبه ووفائه وكرمه وإخلاصه وأمانته لأستاذه، وهو غني عن هذا الاعتراف. فهو أول من يحتمل، في كل شيء، وآخر من يدعي. فإن كان يعذر من وقف يوماً في طريقه، فكيف يسلك مع من أحب؟

إن عدد قراء مدني صالح – كما يقول المعد – خارج الوسط الفلسفي عراقياً أكثر من قرائه في الوسط الفلسفي العراقي، "ترك ضجيج المساجلات الصحفية والأدبية في بداية التسعينيات من القرن المنصرم بعد أن خاض معمعتها من رأسه إلى أخمص قدميه بينما لم نره يوماً يخوض في المساجلات الفلسفية خارج قسم الفلسفة، فلم نره قط في مؤتمر أو ندوة أو مجلس لا في داخل العراق ولا في خارجه كما لم نسمع بذلك، بينما لم نره يوماً قد تخلف عن أداء واجبه الأكاديمي في قسم الفلسفة، وأكاد أجزم أنني لم أره يوماً ما قد تغيب عن محاضرة من المواد المقررة التي كان يدرسها كما أنني لم اسمع بذلك". "مدني صالح متهم من حساده أنه غير معروف عربياً وهذه حقيقة، كما أنه متهم من الذين لا يقيم لهم وزناً ولا يساوون في ميزانه الذي لا أدق منه وزن ريشة بأن كتاباته لا تخرج عن نطاق الأدب الذي منه المقامة والمقالة، كلها من الأدب إلى الأدب بعيداً عن الفلسفة كما يدعون، وإذا أراد أحد منهم المجاملة صنفها في الأدب الفلسفي، ويؤكدون أن مؤلفاته لا فلسفة فيها إلا كتابه (الوجود) الذي تبرأ منه مدني صالح متمنياً لو أن كتابه (الوجود) كان في منافع الثوم وفوائد البصل لانتفع به الناس أكثر من انتفاعهم بـ (الوجود)".

د. فيصل غازي مجهول

(الصباح، العدد (1581)، الأحد 18 كانون الثاني 2009).

author-img
فيصل غازي مجهول

تعليقات

google-playkhamsatmostaqltradent