إن للتصوف الإسلامي تاريخاً طويلاً، بدأ بالزهد والعزوف عن الدنيا ثم تطور وأثرت فيه تجارب ديانات أخرى وامتزجت فيه مباحث الفلسفة فأنتج أفكاراً عميقة. وقد عُد التصوف الوجه الأكثر إشراقاً للحضارة العربية الإسلامية لما فيه من إمكان لتجاوز النص وفتح آفاق التأويل التي تؤدي إلى فهم آخر للدين والحياة.

يقوم التصوف على أساس التجربة الباطنة المباشرة للاتصال بين الإنسان والله، بعيداً عن العقل المنطقي. ويقوم كذلك على أساس إمكان الاتحاد بين الصوفي والله، فطريق الصوفي متصاعد ينتهي بالاتحاد. وعلى الرغم من أن ما يقوم به المتصوفة من تحليل لأحوال النفس يقوم به غيرهم من الفلاسفة، فإن أداة المعرفة عندهم هي الوجدان أو الذوق، بينما تكون عند غيرهم البرهان العقلي. والمعرفة التي يصل إليها الصوفي معرفة مباشرة بغير وسائط من مقدمات أو قضايا.
ولد الحلاج في
مدينة البيضاء في إيران، وسافر إلى بغداد وحضر مجالس المتصوف الجنيد. ثم كوَّن
مذهباً لنفسه ودعا الصوفية إلى الأخذ به. وقد ذُكر عنه أنه كان ينكر الواجبات
الشرعية ويعد الأساس في الحج الاتجاه القلبي إلى الله، وزعم أنه أجاز لإتمام الحج
أن يطوف الإنسان في بيته حول بناء مربع يشبه الكعبة على أن يكون طاهراً. ومع ما يُذكر
من مؤلفاته إلا أنه لم يبق إلا كتابُ الطواسين (جمع طاسين بمعنى الفصل الروحاني،
أو الآية في رأي خصوم الحلاج).
حمله طموحه على
أن يشطح في عباراته ولا يتحرى الحيطة في أفعاله مما أثار ثائرة الصوفية، لا سيما
الجنيد، إذ إنهم كانوا يتوقون كثيراً من اطلاع الناس على أسرارهم الثقافية
والتطبيقية خشية وقوعهم تحت طائلة الفقهاء من ناحية ومراقبة الدولة.
بدأ الحلاج
يدعو الناس سراً إلى مذهبه الجديد الذي يقوم على تغليب جانب الروح على الجسد
برياضة النفس بأشد ما تكون الرياضة، ذلك بهدف شحنها بالروح الإلهية وتمكينها من
تقبل الطاقة الربانية التي يعجز الإنسان العادي من أن يحتمل إشعاعها في نفسه ليكون
في وسعه في النهاية أن يتعلم من الله. وكان من رأي الحلاج في هذه الفترة أن صاحب
الدعوة ينبغي أن يمضي في دعوته إلى الغاية التي ما بعدها غاية دون تراجع.
قد يكون هناك
شبهٌ بين ما ذهب إليه الحلاج في الحلول، وما قال به المسيحيون. فقد خلق الله آدم
على صورته. والإنسان في نظر الحلاج صورة الله، بإرجاع الضمير في قوله "على
صورته" إلى الله لا إلى الإنسان، صورة الله التي أخرجها من نفسه في الأزل،
وأعلن بواسطتها عن مكنون سره وجماله. وهذه الصورة في مظهرها الخارجي مؤلفة من
طبيعتين؛ "الناسوت" وهو الناحية البشرية، و"اللاهوت" وهو
الناحية الإلهية، وقد امتزجت الطبيعتان مزجاً تاماً. وقد عبر الحلاج عن ذلك بهذه
الأبيات:
سبحان من أظهرَ ناسوته
سرَّ سنا لاهوته الثاقب
ثم بدا لخلقه ظاهراً
في صورة الآكل الشارب
حتى لقد عاينه خلقُه كلحظة الحاجب بالحاجب
قد يكون آدم هو
المقصود بالبيت الأول، أما المقصود بالبيت الثاني والثالث فهو المسيح الذي ظهر به
الله مرة أخرى على صورة إنسان يأكل ويشرب، لكنه في الحقيقة الله تجلى في إنسان.
ويقول:
مزجت روحك في روحي كما
تمزج الخمرة في الماء الزلال
فإذا مَسَّكَ شيءٌ مَسَّني فإذا أنت أنا في كل حال
ويقول أيضاً:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحانِ حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرتَه وإذا أبصرتَه أبصرتنا
إن هذه الأقوال
وغيرها لا يمكن أن تقبل في بيئة إسلامية محافظة، بل تعد انحرافاً عن الدين. وكثير
من أقوال المتصوفة لم تكن مقبولة عند عموم المسلمين لاسيما الشطحات التي يكون
ظاهرها خروجاً عن الدين. و"الشطح" عبارة مستغربة في وصفِ وجدٍ فاض بقوته
وهاج بشدة غليانه وغلبته. فمثلاً يقول الحلاج:
كفرتُ بدينِ الله والكفرُ واجب عليَّ، وعند المسلمين قبيح
فقد استعمل الحلاج فيه كلمة الكفر استعمالاً لغوياً لا
اصطلاحياً.
لقد ادعى
الحلاج أنه صورة الإله القائمة على الأرض وأن كل إنسان يمثل واحدة من تلك الصور
الإلهية التي لا تحصى. هذه الأقوال وغيرها، قد أثارت حفيظة المسلمين وقتئذٍ واتهمه
الفقهاء بالقرمطة والحلول وادعاء النبوة والألوهية والكفر والزندقة. ثم انتهى به
الأمر إلى المحاكمة والإدانة بالكفر، ثم القتل. وكانت قتلته بشعة، إذ ضُرب ألف سوط
وقطعت يداه ورجلاه ثم ذبح وأحرق وذرّي رماده في نهر دجلة.
يبدو أن فلسفة
الحلاج كانت تتمثل في أن موته في حال إخفاقه سيكون سبباً في ثقة الناس به وتقديرهم
لتضحيته وإيمانهم بفكرته على نحو ما حصل مع المسيح:
على دين الصليب يكون موتي ولا البطحا أريد ولا المدينة
قد يكون السبب
في قتله خروجه عن المألوف السائد من الدين، أو مسألة سياسية، أو تداخل المسألتين
معاً. وعندما سُئل الحلاج وهو مصلوب: "ما حد التصوف"؟ قال: ما ترون. أي
الاستشهاد في سبيل الحق. وتشير بعض الروايات إلى أن الحلاج قد توقع المصير الذي
ينتظره. وهذا ممكن من الناحية الدينية، إذا أخذنا بالمعجزات والكرامات. وممكن
أيضاً من الناحية الواقعية إذا أخذنا بالأسباب والنتائج.
قال الحلاج:
اقتلوني يا ثقاتي
إن في قتلي حياتي
ومماتي في حياتي
وحياتي في مماتي
أنا عندي محو ذاتي
من أجلِّ المكرمات
وبقائي في صفاتي
من قبيح السيئات
سئمت روحي حياتي
في الرسوم الباليات
فاقتلوني واحرقوني
بعظامي الفانيات
ثم مرُّوا برفاتي
في القبور الدارسات
تجدو سرَّ حبيبي
في طوايا الباقيات
ليس التصوف مسألة
فردية وحسب، بل له دور اجتماعي يؤديه، فهو كالعلاج الذي جرَّبه الطبيبُ المعالج على
نفسه ابتغاء أن يفيد به الآخرين. وهو ليس نصوصاً وعلوماً نظرية فقط، بل هو أخلاق
أو قاعدة للحياة. كما يقول الجنيد: "ما أخذنا التصوف عن القيل والقال، لكن عن
الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات". ولم تكن قوة التصوف في الانعزال المترفع،
بل في الشوق إلى التضحية في سبيل الإخوان.
يمتاز التصوف
بنزعة إنسانية عالمية متفتحة على سائر الأديان والأجناس. فأبو يزيد البسطامي، على
سبيل المثال، كان يدعو الله لجميع الناس، ويلتمس منه أن يبسط رحمته على النوع
البشري كله، ويود لو يتشفع للناس كافة لا للمذنبين من الأمة الإسلامية وحدهم، بل
لكل الخطاة بأي دين دانوا. ويود لو تحمل عن الخطاة جميعاً العقاب، فاتسع وجودُه
ليشمل النار كلها، فلا يبقى فيها موضع لغيره.
ويقول الحلاج:
تَفَكَّرتُ في الأديان جدّ محقق فألفيتُها أصلاً له شُعَبٌ جمّا
وقد عبر ابن عربي عن النزعة الكلية والحب في أبياته
المشهورة الآتية:
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة فمرعى لغزلان وديرٌ لرهبان
وبيتٌ لأوثان، وكعبةُ طائف وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآن
أدينُ بدينِ الحب أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني
بقي الاتجاه الصوفي في الثقافة الإسلامية بين مد وجزر، فمِن مؤيدٍ له إلى مُكفِّر. لكن كفة الرافضين له قد أصبحت راجحةً في الوقت الحاضر لأسبابٍ لا مجال لذكرها هنا. وقد تكون في الدعوة إلى التصوف ناحية عملية في الحياة، ذلك إن كان لابد من الاستناد إلى الدين في تقرير المصير. فالتصوف يركز في التضحية والإيثار والشعور بالآخر وإمكان فهمه والتعايش معه، حتى تصبح الأفكار كلها والأديان كلها معبرة عن شيء واحد، فيصبح البعيد قريباً، والغريب مألوفاً.
راجع:
كامل الشيبي: صفحات مكثفة من تاريخ التصوف الإسلامي وشرح
ديوان الحلاج. وعبد الرحمن بدوي: تاريخ التصوف الإسلامي. وأبو العلا عفيفي:
التصوف، الثورة الروحية في الإسلام.
فيصل مجهول
(نجم المشرق، العدد (60)، السنة الخامسة عشرة (4) 2009).