الأب الدكتور هاني بيوس حنا راهبٌ دومنيكي عراقي وأستاذ للفلسفة، اختص بالوجودية والشخصانية، وهو ذو عقل منفتح على جميع الفلسفات والأفكار، وبعضٌ من تلك الفلسفات تتقاطع مع المعتقد الديني، لكن تعمقه في الفكر منحه قوةً تمحو حدوداً ظاهرية بين الأفكار، وربما صهر الأضداد بمركب جديد.
في هذا الكتاب تعاملَ مع نصٍّ فلسفي فرنسي، وهو قادرٌ
على ذلك، لا لأنه يُجيد الفرنسية وكتبَ كتابه هذا أصلاً بها وحسب، بل لأن له عقلاً
فلسفياً مكَّنه من اقتحام مجالٍ يحذر منه الناطقون بتلك اللغة والمشتغلون بذلك
الفكر. وليس ذلك ببعيدٍ عن صفاء ذهنه شخصاً، وشدة صبره راهباً، ودقة تفكيره
فيلسوفاً، وكبر تحديه للظرف عراقياً.
قدم الأب الدكتور هاني بيوس مسوغات للكتابة عن مونييه في
هذا الزمن، بوضوح ودقة. وإذا تجاوزتُ هذه النقطة فسأستخلص بعض الأفكار التي حاول أن
يركز فيها، وأن يستنتجها من أعمال مونييه، إذ ليس بالضرورة أن تكون فكرة مونييه
مطروحةً بشكل مباشر وبعنوان محدد في كتاباته، بل تجدها متفرقة في أعمال عدة. وقد
تطلبَ التقاط ُالفكرة وجمعُها وعرضها بنسقٍ معينٍ جهداً كبيراً منه.
بحث المؤلف في شبكة من العلاقات التي كانت قائمة بين
المذاهب والأفكار في الثقافة الغربية المعاصرة، وهي تمثل اتجاهات سياسية ودينية
وعلمية وفلسفية شكلت ثقافة ذلك العصر. أسئلة فكرية ومصيرية طرحها واقعٌ معين، وأجابت
عنها فلسفات وإيديولوجيات ومؤسسات، وكانت إجابة مونييه إحدى الإجابات التي إن لم
يتقبلها العلمانيون لأنها تنتمي إلى الدائرة الدينية، فإنها لم ترُق أيضاً للمؤسسة
الدينية في حينها، وربما تبنتها فيما بعد. فالكنيسة، كأية مؤسسة أخرى، يهيمن عليها
الفكر التقليدي الذي لا يقبل التجديد في زمن، وفي زمن آخر تقبل التجديد والانفتاح
وقبول بعض المستجدات. وموقفٌ صعب ومفارقة كبيرة أن تكون منتمياً ولا منتمياً، وإن
اختلفت وجهة النظر.
لقد تخلص مونييه من إشكالية أثارها مفكرون قبله، أنصار
مثالية طوباوية أنتجت أوهاماً، وأنصار مادية جعلوا الإنسان آلة إنتاج واستهلاك.
فكان يبحث عن شكل من أشكال الملكية، من دون أن يُقيَّد معنى الامتلاك بأن يكون
الاستحواذ دافع الإنسان الرئيس. فاستند إلى المسيحية ولم يرَ مفهوم الملكية
مرادفاً للاستحواذ، فالامتلاك الانساني يختلف كلياً عن الامتلاك الإلهي.
إذا لم يتطرق مونييه لموضوع الالتزام بشكل مباشر ولم
يكرس له كتاباً أو بحثا بهذا العنوان بالتحديد، فإنه شغل حيزاً كبيراً في مؤلفاته،
وهذا ما استشفه المؤلف وحاول الوقوف عليه من مؤلفاته.
لقد قرأ مونييه كتابات ماركس ونيتشه، لكنه صُدم بهما،
فكان يخاطبهما ولا يُعد تلميذاً لهما. فوجه نقداً لطروحات ماركس التي تُثني على
دور المادية والإنتاجية، والإنتاجية الماركسية، كما يراها، قد سببت أذى للإنسان. وندد
بموقف الحضارة المعاصرة التي ترفض وتحتقر فكرة الغائية، ونظر الى العلاقة بين
الطبيعة والإنسان على أنها علاقة تعاون، فكل شيء موجه نحو هدف، وكمال الإنسان
تتويج للطبيعة وغايتها القصوى. ورأى أن كل تشويه للمادة يعني اغتراباً للشخص، لذا
ينبغي تحرير المادة من المادية المنحرفة التي فرضتها الأنظمة الشمولية كالماركسية
والرأسمالية. فقد استبدلت هذه الأنظمةُ الإنسانَ بمادية استعبدته فأرضخته لخدمة
إنتاجية خالصة بذريعة تقدم المجتمع.
بين مساندة المثالية للبعد الأخلاقي وإهمالها للبعد
الاقتصادي، وإعطاء المادية الأولوية للبعد الإنتاجي، رأى مونييه أن كلاً منهما
مخطئ، لأنهما سقطا في فخ ازدواجية تتجاهل طبيعة الوجود الإنساني، وأحدثا شرخاً في
الوحدة التي تربط الروح بالجسد.
ما تجهله الأنظمة – بحسب مونييه – أنها عاجزة تماماً عن
فهم الإنسان والولوج إلى طبيعته بوصفه شخصاً ملقى في الواقع ليحقق ذاته من داخل
القلق الذي يسكنه، ومن هذا القلق تنبع طاقة تدفعه إلى التقدم، على الرغم من ضبابية
الوجود وعتمة الأحداث. لم يقترح مونييه إطفاء القلق وكبحه، بل أبقاه في ضمن مفهوم
أمانة الإنسان تجاه ظروفه، في مرافقته القلق وانتقاء معطياته الايجابية كاليقظة
التي يتزود بها الشخص. فليس القلق حاجة آنية وعرضية نُشبعها، بل هو رغبة حقيقية
وفراغ دائمي.
يقول المؤلف: "عندما يلقي المرء نظرة شاملة إلى
مجمل التيارات الوجودية، يلاحظ هيمنة الطابع السوداوي والتشاؤم على غالبية
أفكارها. فقد أخذت الوجودية على عاتقها تفسير المواضيع المتعلقة بالحياة والموت
والمعاناة والفوضوية. فكشفت هذه المفاهيم عن حالة غموض تسود الوجود العام. كان هذا
الغموض وراء نظرة الوجوديين التشاؤمية. فالإنسان، وجود محكوم عليه بالشقاء وحرية
معزولة، بلا حدود (سارتر)".
لقد آلت فكرة أن طبيعة الوجود الإنساني سوداوية ومأساة
دائمية إلى تقسيم الوجودية على تيارين؛ قال أولهما بأن الحياة الإنسانية تعاسة ونهايتها
فناء، إذ ينتظرها الموت في النهاية. وأقر الثاني بحقيقة تلك المأساة، لكنه عارض
فكرة الفناء وفوضوية المصير الإنساني. فالمأساة ليست نهاية، بل بداية وفاتحة طريق
شرطَ أن تحلل وتختبر بكل عمقها. فالوجود البشري المأساوي مكان لتدفق التزام حقيقي
تجاه الحياة. وينتمي مونييه إلى فلاسفة التيار الثاني.
أطلق مونييه على إيجابية مأساة الوجود مصطلح
"التفاؤل بالمأساة"، فعكس ذلك ثقته بالإنسان ومصيره. وإن الانعزال عن
العالم يؤدي إلى فردانية تمثل أكبر الأخطار التي تهدد الشخصانية، بل هي وباء في
المجتمعات الأوربية الحديثة في القرن العشرين. وكان متحفظاً تجاه التيار الوجودي
الملحد فشخص نقطة ضعفه الأساسية بأنه أقام بحوثاً حول الآخر، لكن تقديمه كان
سلبياً إلى درجة أنه شوه الغيرية.
قام المؤلف بتحليل مفهوم التقدم من داخل الالتزام
الشخصاني لمفكر مسيحي أخذ بالحسبان متطلبات تاريخ مجتمع في تغير دائم. كان مونييه
على يقين أنه ليس من مكان آخر لتحقيق الإنسان إنسانيته سوى أعماقه، وهي مكان
انفتاحه على العالم وعلى الآخر ومكان ولادة الحرية. وهذه الأعماق لا توجد جزافاً
لكنها جزء بنيوي من طبيعة البشر وموجودة بالضرورة مع الإنسان.
إن فكر مونييه، كما يرى المؤلف، قد أسهم بشكل غير مباشر في
تصحيح هوية العلماني وصياغتها بشكل جديد، وهذا ما عالجه المجمع الفاتيكاني الثاني
الذي يعد حدثاً مهماً في القرن العشرين، وكانت الكنيسة تستعد لإجراء تغييرات جذرية
في تنظيماتها في العالم، وتعيد النظر في علاقتها مع الأديان الأخرى، وكان لابد من
أن تعالج مسألة هوية العلماني.
كان مونييه صاحب مشروع كبير، ولم يكن سهلاً عليه أن يحقق
ذلك المشروع لأنه عاش في مجتمع انتشرت فيه تيارات إلحادية تدعو إلى علمانية مطلقة،
وتيارات مسيحية تقليدية، وعلى الرغم من انتمائه المسيحي فإن الكنيسة آنذاك كانت
تقف موقفاً متصلباً تجاه كل حداثة وتفسير حديث للكتاب المقدس. ولم يكن مونييه
توفيقياً بقدر ما كان يستعين بكل خبرة حقيقية نابعة من الوجود الإنساني، ملحدة
كانت أو مؤمنة.
أثر مونييه في كثير من الفلاسفة وانتشر فكره في دول
أوربا ووصل إلى عالمنا العربي، ومن أبرز من تأثر به المفكر المغربي محمد عزيز
الحبابي، والمفكر اللبناني رينيه حبشي. وقد أشار المؤلف إلى أنه لم يكن يرمي إلى
إحياء ذكرى فيلسوف مؤثر في النصف الأول من القرن العشرين وحسب، بل كان يرمي لهدف
أبعد، إذ يرى أن الاهتمام به ضرورة في أيامنا هذه. فالأسئلة التي تتعلق بالمصير
والغاية ما تزال تفرض نفسها من أجل إعادة النظر في المقاييس الاجتماعية التي تسير
الإنسان. وقد وصف العمل الذي قام به بأنه ليس "رغبة في مساندة مفكر فقط لأجل
إعادة ذكرى فترة تاريخية إلى الأذهان، بالعكس، وراء هذا الكتاب، يقين عميق في أن
فكر مونييه سيعود مع بداية الألفية الثالثة. فكثير من المفكرين والمنظرين من
اللاهوتيين والعلماء يتوقع أن يأخذ هذا القرن منحى أخلاقياً وفلسفياً، حيث سيكونون
ملزمين لتطوير فكر عن الشخص ومكانته في عالم طغت عليه النزعة الاستهلاكية
والانفجار التقني".
د. فيصل غازي مجهول
تقديم لترجمة الكتاب