تناول كتاب فتجنشتاين (1889-1951) "رسالة منطقية فلسفية" موضوعات كثيرة ومهمة بشكل مركز أشد التركيز. فقد درس فيه العالم، طبيعة اللغة، أسس المنطق والرياضيات، فكرة دوال الصدق، النظرية التصويرية للغة، ملاحظات عن فلسفة العلم، الأخلاق والجمال والدين والميتافيزيقا.
ويُعرف كتابه بقوله: "إنه كتاب يعالج مشكلات الفلسفة، ويوضح – فيما أعتقد – أن الذي دعا إلى إثارة هذه المشكلات هو أن منطق لغتنا منطق يساء فهمه. ويمكن أن نلخص معنى الكتاب كله على نحو قريب مما يلي: إن ما يمكن قوله على الإطلاق، يمكن قوله بوضوح، وأما ما لا نستطيع أن نتحدث عنه، فلا بد أن نصمت عنه. وعلى ذلك فالكتاب يستهدف إقامة حد للتفكير، أو هو على الأصح لا يستهدف إقامة حد للتفكير، بل للتعبير عن الأفكار. ذلك لأننا لكي نقيم حداً للتفكير، يلزم أن نجد جانبي ذلك الحد كليهما مما يجوز التفكير فيه. (ومعنى ذلك أنه ينبغي لنا أن نستطيع التفكير فيما لا يمكن التفكير فيه). ولذا، فإن هذا الحد، يمكن أن يوضع فقط بالنسبة للغة، أما ما يكون في الجانب الآخر من هذا الحد، فسيعد ببساطة لا معنى له".
لقد اعتقد فتجنشتاين بأن أفكاره التي
ساقها في الرسالة مقطوع بصحتها ولا يمكن الشك فيها، وأن كل ما هو أساسي في الفلسفة
قد تم حله نهائياً.
تتكون الرسالة من جمل أو فقرات تطول
وتقصر بحسب الفكرة. وعدد الفقرات الرئيسة في الرسالة هو سبع فقرات، وتتفرع من هذه
الفقرات الرئيسة – عدا الفقرة السابعة – فقرات فرعية أخرى تكون تعليقاً أو شرحاً
للفقرة الأصلية. مثلاً الفقرة 2.11 هي فرع من الفقرة 2.1، وهذه تتعلق بـ 2. وقد
أضاف بعض شراح رسالة فتجنشتاين تقسيماً آخر زيادة في الدقة، مثل ماكس بلاك الذي
قسم الفقرة الواحدة إلى فقرات فرعية، ومن ثم قسم تلك الفقرات الفرعية إلى جمل.
وليست جمل فتجنشتاين أقوالاً ينفصل
بعضها عن بعض، وإنما هي كل مترابط فالجزء الأخير من الرسالة يفترض مسبقاً الجزء
المبكر منه، والجزء المبكر يجد اكتماله الطبيعي والضروري في الجزء الأخير، وهكذا
تكون فلسفة الرسالة متكاملة. وربما كانت وحدتها وانسجامها التام من ميزاتها
الجميلة. ويقول ستينيوس (وهو أحد شراحه الكبار): "إن المرء إذا أراد أن يفهم
الرسالة، عليه أن يدرك، برغم شكل الرسالة الذي يبدو متقطعاً، أن بحث فتجنشتاين
كلٌّ مترابطٌ لا مجموعة أقوال غير مترابطة عن موضوعات منطقية وفلسفية
مختلفة".
تعد الرسالة تعبيراً عن نتائج انتهى
إليها فتجنشتاين بعد تفكير وبحث فلسفي استغرق ما يقارب أربع سنوات، وكان قد انتهى
من كتابتها مخطوطةً عام 1918، فكانت صياغة أخيرة لأفكاره الفلسفية، وهذا جانب من
صعوبتها؛ إذ أنه أعطى نتائج أبحاثه لا كيفية التوصل إليها. وقد حاول نشرها في
النمسا وألمانيا فلم يجد من يوافق على نشرها؛ لأنها مختلفة تماماً عن الأعمال
الفلسفية الأخرى فصعُب تصنيفها. ثم بعث إلى برتراند رسل (الفيلسوف الإنجليزي
المشهور) ليساعده في نشرها، ونشرها فعلاً عام 1921 في المجلة العلمية "وقائع
الفلسفة الطبيعية" التي كان أوستفالد رئيسَ تحريرها. وقد نُشرت الرسالة لأول
مرة بعنوان (Logisch Philosophische Abhandlung) ثم غير اسمها إلى الاسم اللاتيني (Tractatus Logico-Philosophicus) على غرار كتاب الفيلسوف اسبينوزا
"رسالة لاهوتية سياسية".
وقد كتب معظم الرسالة أثناء اشتراكه في
الحرب العالمية الأولى، وصاغ أفكاره الرئيسة حول الموضوعات المنطقية التي هي أقدم
أجزاء الرسالة قبل بداية الحرب عام 1914، ثم أكمل بقية الأجزاء أثناء اشتراكه في
الحرب.
وكانت أول ترجمة لها إلى الإنجليزية هي
ترجمة أوجدن، ونُشرت عام 1922 بصفحات ألمانية - إنجليزية متقابلة مع مقدمة لرسل.
وهناك اعتراضات كثيرة على هذه الترجمة، يقول بيرنشتاين، مثلاً، من المعروف أن
ترجمة أوجدن للرسالة غير دقيقة، وفي بعض الأحيان مضللة. وتقول أنسكومب (وهي من
شراح الرسالة أيضاً): "قد يحتاج قراء الرسالة الإنجليز إلى التحذير من أن
ترجمة أوجدن رديئة جداً. وقد أخبرني فتجنشتاين أنه لم يراجع كل هذه الترجمة بل
أجاب فقط عن بعض الأسئلة". وقد ظهرت ترجمة أخرى للرسالة قام بها بيرس وماك
جينز عام 1961، ويرجع كثير من الباحثين إلى هذه الترجمة. ولا يفضل بعضهم ترجمة كاملة
على أخرى، بل يفضلون بعض الفقرات على بعضها، فتراهم يقولون إن ترجمة أوجدن كانت
أفضل في هذه الفقرة وأن ترجمة بيرس كانت أدق في تلك الفقرة. وهناك من يفضل الرجوع
إلى النص الألماني مباشرة، إذ أن كثيراً من مقاطع الرسالة – كما يقول شفايزر – لا
يمكن أن تنقل إلى الإنجليزية من دون فرض تفسير محدد.
وقد ترجمت الرسالة إلى كثير من لغات
العالم. ترجمت – إضافة إلى الترجمتين الإنجليزيتين السابقتين – إلى الصينية عام
(1927)، والى الإيطالية (1954)، والى اليوغسلافية (1960)، والى الفرنسية (1961)،
والى السويدية (1962)، والى الدنماركية (1963)، والى الإسبانية (1975). وقد ترجم
الرسالة إلى العربية عزمي إسلام وراجعها زكي نجيب محمود (1968).
كان للرسالة أثر كبير في الفلسفة
المعاصرة، وبدا ذلك واضحاً على الوضعيين المناطقة وعلى غيرهم ممن يستعملون التحليل
منهجاً في الفلسفة. ويرى رسل أنه لا يمكن لأي فيلسوف أن يتجنب هذا الكتاب أو
يهمله. ويقول ماكسويل شارلز وورث مهما قال الإنسان عن رسالة فتجنشتاين فلابد على
الأقل أن يتبين أصالتها والطريقة غير العادية التي يستعملها مؤلفها في عرض أفكاره…
إن الإنسان يستطيع أن يقول – بلا مبالغة – إن الفلسفة الإنجليزية التالية لظهور
الرسالة كانت متضمنة في الرسالة نفسها على نحو أو آخر.
إنها من الأعمال الصعبة، وقد أشار إلى
صعوبتها كل من قرأها أو بحث فيها. وربما كان الشيء الوحيد الذي اتفق عليه دارسو
الرسالة هو أنها صعبة. ويبدو أن فتجنشتاين نفسه قد شعر بهذه الصعوبة، حيث قال في
مقدمته: "لن يفهم هذا الكتاب – فيما أظن – إلا أولئك الذين قد طرأت لهم
الأفكار الواردة فيه نفسها، أو قد طرأت لهم على الأقل أفكار شبيهة بها، ولذا فهو
ليس كتاباً مدرسياً. وإنه ليحقق الغاية منه لو أنه أمتع قارئاً واحداً قرأه
وفهمه".
ولكن من هو هذا القارئ الذي يدعي أنه
فهم الرسالة، فقد رأى فتجنشتاين أن رسل ومور وغيرهما لم يفهموا الرسالة، ولم يكن
راضياً عن المقدمة التي كتبها رسل للرسالة. فقد شكره – برسالة بعثها إليه – على
تلك المقدمة، لكنه لم يكن متفقاً معه على ما جاء فيها، وأخبره بأنه قد طلب من
الناشر ألا ينشر تلك المقدمة. ويقول رسل: في فترة ما، كان فتجنشتاين متفقاً معي في
أن اللغة المنطقية ستكون مفيدة في الفلسفة، وقد نسبت له هذه الفكرة في المقدمة
التي كتبتها لرسالته المنطقية الفلسفية. ولسوء الحظ لم يترك هذه الفكرة في تلك
الفترة وحسب، بل إنه قد نسي أنه آمن بها يوماً ما. ولهذا فإن ما قلته عنها بدا له
تحريفاً.
ولم يكن فتجنشتاين راضياً عن تفسيرات
الوضعيين المناطقة لها، ويبدو أنه لم يكن مقتنعاً بأي تفسير لها من أي شخص. وهذا
ليس بغريب على تاريخ الفكر، فقلما تجد مفكراً يرضى عن تفسير الآخرين لأفكاره. وزد
على ذلك أن المعلقين على الرسالة أو مفسريها هم أنفسهم لم يكن أحدهم مقتنعاً بتفسير
الآخر، فترى أحدهم يقول للآخر إنك لم تفهم مقصد فتجنشتاين في هذه العبارة أو تلك.
ولم يسلم أحد منهم من تهمة سوء الفهم أبداً. وقد لجأ بعضهم إلى محاولة فهم ما جاء
في الرسالة من خلال بعض مؤلفات فتجنشتاين الأخرى، مثل "Notebooks" لأنه يمثل مرحلة ما قبل الرسالة، وبينه وبينها شبه. لكنه لا
يعد تفسيراً لها؛ إذ أن فيه ما يوافق بعض ما جاء في الرسالة، وفيه ما لا يوافقه.
وحاول بعضهم أن يجد في حياة فتجنشتاين وعلاقاته وأحاديثه الخاصة ما يساعد على فهم
بعض الفقرات. وكان الإيجاز الشديد من أهم مصادر الصعوبة، حيث فتح الأبواب لتفسيرات
وتأويلات كثيرة.
تقتصر مهمة الفلسفة عند فتجنشتاين على
توضيح الأفكار وذلك من خلال تحليل اللغة. ويرى أن ليس للفلسفة حق في بناء الأفكار،
ورفض أن تكون الفلسفة نظرية أو مذهباً، وإنما هي باختصار طريقة في التحليل،
"إن موضوع الفلسفة هو التوضيح المنطقي للأفكار". وتقف نظرة فتجنشتاين
هذه إلى الفلسفة ضد محاولات الفلاسفة الذين يقيمون أنظمة فلسفية تتناول موضوع
العالم الخارجي، فالفلسفة عنده ليست علماً من العلوم الطبيعية، ويتكون العمل
الفلسفي أساساً من توضيحات، ولا تكون نتيجة الفلسفة عدداً من القضايا الفلسفية،
إنما هي توضيح للقضايا. وليست الفلسفة محاولة للبحث في مجالات الوجود، ولا محاولة
لاكتشاف حقائق جديدة؛ لأن مهمة اكتشاف حقائق جديدة هي مهمة علماء الطبيعة وحدهم.
أما مجال الفلسفة فهو الجانب الذي ما يزال موضع نزاع في العلم الطبيعي. إن أقوال
فتجنشتاين عن موضوع الفلسفة وطبيعتها واضحة في الفقرات الختامية من رسالته، إذ يضع
منهجاً للفلسفة، قائلاً: "إن المنهج الصحيح للفلسفة يمكن أن يكون هو هذا: ألا
تقول شيئاً مما يمكن قوله، أي، قضايا العلم الطبيعي، أي، شيئاً لا علاقة له
بالفلسفة. فتبرهن دائماً، حينما يرغب شخص آخر في أن يقول شيئاً ميتافيزيقياً،
تبرهن له أنه لم يعط أي معنى لعلامات معينة في قضاياه. قد لا يكون هذا المنهج
مقنعاً للشخص الآخر – فهو قد لا يشعر أننا نعلمه الفلسفة – إلا أن هذا المنهج يمكن
أن يكون هو المنهج الصحيح الوحيد على وجه الدقة".
وبعد أن يثبت فتجنشتاين في عبارته الأولى
أن العالم هو جميع ما هنالك، يبدأ بالحديث عن العالم من حيث إنه يتكون من وقائع
وليس من أشياء، وتحدد هذه الوقائع العالم. ولا يحدد مجموع هذه الوقائع ما هنالك
وحسب، بل يحد ما ليس هنالك. ولا يمكن تعريف الوقائع التي يتكون منها العالم على
وجه الدقة، لكن يمكن شرح ما نعينه بقولنا إن الوقائع هي ما يجعل القضايا صادقة أو
كاذبة.
كان يرى أن قضايا المنطق لا تقول شيئاً،
وهي تحصيل حاصل. وأن النظريات التي تجعل قضية من قضايا المنطق تبدو ذات موضوع معين
هي نظريات باطلة. وبالمقارنة بين القضايا المنطقية والقضايا غير المنطقية يرى أن
صدق القضايا اللامنطقية أو كذبها لا يمكن التعرف عليه من مجرد القضايا وحدها، أي
أننا لابد أن نقارنها بالواقع لنعرف إذا ما كانت صادقة أو كاذبة. ويلخص كل فلسفة
المنطق بقوله: "إن العلامة المميزة للقضايا المنطقية هي أن الإنسان يمكنه أن
يدرك من الرمز وحده أنها صادقة"، فلا تنقضها أو تؤيدها أية خبرة ممكنة. أما
قضايا الرياضيات فإنها تشبه قضايا المنطق، والرياضيات إحدى طرق المنطق وقضايا
الرياضيات معادلات، ولذا فهي أشباه قضايا، وأن منطق العالم الذي تظهره قضايا
المنطق في تحصيلات الحاصل، تظهره الرياضيات في معادلات.
أما النظرية التصويرية فهي من النظريات المهمة في الرسالة. فقد رأى أن ماهية التصوير مطردة بغير شواذ. فالكتابة الهيروغليفية، مثلاً، ترسم الوقائع التي تصفها، "ولأول وهلة قد لا تبدو القضية، كما نراها مطبوعة على الورق مثلاً – رسماً للوجود الخارجي التي جاءت لترسمه. ويمكن أن تمثل الصورة أي واقع لها صورته "الصورة المكانية تمثل أي شيء مكاني، والصورة الملونة تمثل أي شيء ملون…". ولا يستعمل فتجنشتاين "الصورة" بمعنى رمزي، ويجب أن تؤخذ ملاحظاته على أنها تنطبق حرفياً على كل الرسوم أو الصور أو الأشكال التمثيلية كالخرائط مثلاً التي يمكنها أن تصور كيفية وجود الأشياء في الواقع. وكل شيء يقال عن الصور بشكل عام سينطبق على حالة خاصة مهمة تكون فيها الصورة "صورة منطقية"؛ أي قضية.
د. فيصل غازي مجهول
(جريدة الصباح، الأربعاء 8 تشرين الأول 2003).