recent
أخبار ساخنة

اسبينوزا وعلم الأخلاق

باروخ اسبينوزا (1632-1677) واحد من كبار فلاسفة القرن السابع عشر. وعادةً ما يُذكر مع ديكارت ولايبنتز بوصفهم المعبرين عن الاتجاه العقلي في الفلسفة الأوربية الحديثة.

اسبينوزا

ويعد اسبينوزا أيضاً الممثلَ الكلاسيكي للواحدية المحايدة التي كان من ممثليها في الفلسفة المعاصرة وليم جيمس وبرتراند رسل، تلك النظرة التي ترى أن الواقع النهائي ليس ذهنياً ولا مادياً، وإنما هو جوهر محايد، يكون الذهن والمادة مجرد صفات له. إن هذا الرأي ينظر إلى جسم الإنسان ونفسه على انهما مجرد وجهين لنفس الجوهر الواحد الكامن من ورائهما. ويرى اسبنوزا أن الجوهر الشامل هو الموجود الحقيقي وليست كل الأشياء الأخرى، المادية منها والذهنية على السواء، إلا صفات أو أحوالاً له، وهو يعرف هذا الجوهر بأنه ما يوجد في ذاته ويتصور بذاته، إضافةً إلى ذلك فإن الجوهر هو ذاته الله، فكل ما يوجد هو الله أيضاً، ويمتد هذا التوحيد بين الله والجوهر والواقع في مذهب اسبنوزا بحيث يشمل الطبيعة. [يُنظر مدخل إلى الفلسفة لامام عبد الفتاح]

ويرى رسل أن نظرية اسبينوزا كانت أشد المذاهب الواحدية التي عرفها التاريخ اتساقاً وصرامة. [رسل: حكمة الغرب (ج2)، ص76].

    وإذا كانت المذاهب الأخلاقية امتداداً لمذاهب المعرفة والوجود فإن هذه النظرة تنطبق على اسبينوزا أكثر مما تنطبق على غيره من الفلاسفة. إذ أن مذهبه يمثل وحدة واحدة. وليس هذا بالأمر الغريب في تاريخ الفلسفة؛ إذ أن معظم الفلاسفة القدماء والمحدثين قد شيدوا أنظمة فلسفية حاولوا أن تكون متماسكة وخالية من التناقض. ولم تكن فكرة ترك الأنظمة الميتافيزيقية قديمة وإنما هي فكرة ظهرت في الفلسفة المعاصرة.

لقد كتب اسبينوزا عدة كتب ولكن للظروف القاسية التي مر بها لم تتح له أن ينشر منها إلا القليل، ولم يكتب عليها اسمه كاملاً، فقد كان مطارداً هارباً متخفياً خائفاً، وتلك ضريبة يدفعها كل من يخرج عن عرف الجماعة التي احتكرت العلم والمعرفة وامتلكت حق التعبير عن معتقداتها. وكان قليل الاختلاط ميالاً إلى العزلة، على الرغم من العروض التي تُقدم إليه بين آونة وأخرى.

ولم تكن كتاباته ضخمة في حجمها غير أنها تكشف عن قدرة على التركيز والدقة المنطقية. [رسل: ص78]. أما أشهر مؤلفاته فهي:

-        في مبادئ فلسفة ديكارت مبرهنة على الطريقة الهندسية.

-        الرسالة الموجزة في الله والإنسان وسعادته.

-        في إصلاح العقل.

-        الرسالة اللاهوتية السياسية.

-        الأخلاق.

ويتم عرض مذهبه بتلخيص ثلاثة من كتبه وهي: إصلاح العقل، الأخلاق، الرسالة اللاهوتية السياسية. وكتاب الأخلاق جامع يلخص الكتب السابقة ويكملها. وقد نهج فيه المنهج الهندسي. وهو المنهج اللائق بمذهب وحدة الوجود الذي ينزل من الواحد إلى الكثير. [يوسف كرم، ص107].

كتاب الأخلاق

ينقسم كتاب الأخلاق على خمسة أقسام هي:

1.    في الله.

2.    في طبيعة النفس وأصلها.

3.    في أصل الانفعالات وطبيعتها.

4.    في عبودية الإنسان أو في قوى الانفعالات.

5.    في قوة العقل أو في حرية الإنسان. [اسبينوزا: الأخلاق، ص27]

    ولم يكن كتاب اسبينوزا (الأخلاق) كتاباً في الأخلاق وحسب يقول رسل: "وحين ننتقل… إلى الأخلاق، نكون قد سرنا وفقاً للترتيب التاريخي الذي نشرت به كتابات اسبينوزا، وإن كان الترتيب المنطقي يقتضي البدء بها. ويمكن القول إن عنوان هذا الكتاب مضلل إلى حد ما بالقياس إلى محتواه. وذلك لأننا نجد هنا أولاً ميتافيزيقا اسبينوزا، التي تنطوي ضمناً على إيضاح لذلك التخطيط الذي يضعه الفيلسوف العقلاني من أجل بحث الطبيعة علمياً. ولقد أصبحت هذه المسألة من أهم المسائل العقلية في القرن السابع عشر. ويلي ذلك عرض يدور حول موضوع الذهن، وسيكولوجية الإرادة والانفعالات، ثم نظرية أخلاقية مبنية على ما سبق". [رسل: ص80].

والأخلاق موضوع المقالتين الأخيرتين، لكنه أطلق هذا الاسم على الكتاب كله لأن غاية النظر عنده العمل، ولأن اتجاهه الأساسي أخلاقي كما هو الحال عند الرواقيين. [كرم، 107و108]

ترجمة الكتاب:

         لقد قام المترجم بترجمة هذا الكتاب إلى العربية بعد مرور أكثر من ثلاثة قرون على تأليفه. وهذه مسألة تنبهنا إلى أن حركة الترجمة إلى العربية لم تبدأ بعد، فكم من كتاب مهم لفيلسوف كبير لم يترجم حتى الآن؟ لقد حظي بعض الفلاسفة بترجمة معظم كتبهم المهمة، ومثال ذلك هيجل وكانت. ولكن معظم فلاسفة العصر الحديث لم تترجم مؤلفاتهم، إذ لم يترجم أهم كتاب لهيوم ولا أهم كتاب لفرنسيس بيكون. ولذا فإن معرفتنا المباشرة بهذه الكتب المهمة بقيت ناقصة غير مكتملة. ومن هنا تكون ترجمة هذا الكتاب التفاتة مهمة من الأستاذ جلال الدين سعيد الذي حاول أن يسد نقصاً في المكتبة العربية.

لقد اعتمد المترجم ترجمة شارل أبون وعلى النص اللاتيني المقابل لها، ذلك أنها، بحسب ما يرى المترجم، قد اتسمت بالدقة أكثر من غيرها، ومع ذلك فإنه يرى أنها لم تخل من العيوب، لذا فقد استعان بالترجمات الأخرى. [مقدمة المترجم، ص19].

ولا أريد هنا أن أختصر ما جاء في الكتاب ولكن سأشير إلى بعض ما جاء فيه على سبيل التعريف به.

تتكون فصول الكتاب (أو أجزاؤه) من تمهيد (في بعض الأجزاء) ثم تعريفات وبديهيات وقضايا وبراهين وحواش ولوازم. ويبدأ الجزء الأول من الكتاب "في الله" بالتعريفات قائلاً: أعني بعلة ذاته ما تنطوي ماهيته على وجوده، وبعبارة أخرى، ما لا يمكن أن تُتصور إلا موجودة" [29]. وفي التعريف السادس يقول بأن الله كائن لا متناه إطلاقاً، يتألف من عدد لا محدود من الصفات تعبر كل واحدة منها عن ماهية أزلية لا متناهية.[30].

وفي الجزء الرابع الذي هو "في عبودية الإنسان" يسمي عجز الإنسان عن كبح انفعالاته والتحكم فيها عبودية. فالإنسان الذي تقهره الانفعالات لا يخضع لنفسه بقدر ما يخضع لسلطان القدر، حتى أنه غالباً ما يجد نفسه مجبراً على القيام بالأمور بالأسوأ مع أنه يرى الأفضل. [257].

ويقدم تعريفاً للخير والشر، فالخير هو ما نعلم علماً يقيناً أنه نافع لنا، والشر على العكس من ذلك، ما نعلم علماً يقيناً أنه يحول دون فوزنا بخير ما. [260]. وفي القضية الثامنة من هذا الفصل يقول: " لا تعدو معرفة الخير والشر إلا أن تكون انفعال الفرح أو الحزن، من حيث شعورنا به".[268]  فبقدر ما ندرك أن شيئاً ما يولد فينا الفرح أو الحزن فإننا نسميه شيئاً حسناً أو قبيحاً.[291]

(جريدة الصباح، ص8 ثقافة، الثلاثاء 26 آب 2003، العدد 48).

author-img
فيصل غازي مجهول

تعليقات

google-playkhamsatmostaqltradent