recent
أخبار ساخنة

الفيلسوف في الثقافة العربية المعاصرة

ليست كلمة "الفيلسوف" أكثر من صفة متواضعة أطلقها يونانيٌّ استكثر على نفسه الحكمة احتراماً لها وتبجيلاً، فقال إني محب لها وحسب. وإنها لحكمةٌ عميقة أن يستكثر الإنسانُ على نفسه الحكمة وأن يرتضي لنفسه البقاء عاشقاً لا مالكاً.
الفكر العربي المعاصر

    وإذا كانت كلمة الحب قد ارتبطت بالفلسفة منذ القدم بحكم الاشتقاق اللغوي، وليس للحب أسباب منطقية، فإن كثيراً من مسائل الفلسفة يبقى حباً وعشقاً لا يُحس به إلا عُشاقها. ليست الفلسفة شهادةً يحصل عليها الشخص بعد مدة من دراسةٍ رسمية فيصبح بعدها فيلسوفاً مُجازاً، كما أنه يصبح طبيباً بعد دراسة الطب أو مهندساً بعد دراسة الهندسة أو محامياً بعد دراسة القانون. وإن كان لا بد من المقارنة فإنها إلى لفظة الفنان أو الشاعر أقرب.
    فالمؤسسات الأكاديمية لا تخلق فنانين أو شعراء أو علماء بل تخرج باحثين أو مختصين بنوع من أنواع العلوم أو الفنون، فإن أصبح مبدعاً أو خرج كما دخل فقد أدت ما عليها من واجب وأعطته خلاصة ما تعرف. أما المبدع المتميز فهو يُخرِّجُ نفسَه بنفسهِ، أو هو كما يقال نسيجُ وحده. إن الفلاسفة لم يكونوا على درجة واحدة من الأهمية أو العظمة أو الشهرة، ولم يكونوا متشابهين في الإنتاج. فهذا فيلسوف لم يتكلم عن السماء والأرض كطاليس وأنكسمندريس، لكنه فيلسوف، وذاك لم يكتب كلمةً في الأخلاق، وآخر هرب من المنطق وأقيسته، لكنهم فلاسفة لأنهم فلسفوا مسألة ما وتعمقوا فيها وأجادوا في ما فعلوا. ولم يستعمل أحدٌ من الفلاسفة المعاصرين أو حتى غير المعاصرين كلمة الفلسفة للتعريف بنفسه، فهل يجرؤ على القول أو الكتابة بأنه الفيلسوف فلان بن فلان؟ لكن غيره يستعملها له، سواء كان ذلك في حياته أو بعد مماته عندما يُسمح بدفنه في مقبرة الموسوعة الفلسفية. فهل هناك معايير صارمة جداً قد طُبقت عندنا على المشتغلين بهذا المجال فلم تنطبق على أحد منهم حياً كان أو ميتاً؟ لم يُطلق العربُ المعاصرون لفظَ "الفيلسوف" على أيٍّ من المشتغلين بالفلسفة، وإذا أحسنّا النيةَ كان ذلك منهم تواضعاً وإن أسأناها كان بخلاً. لكننا نرى أن ألفاظاً أخرى قد أُطلقت بغير تحفظ. لقد ضيقوا استعمالها فلم يطلقوها على من قضى عمرَه كلَّه مُحباً لها ومشتغلاً بها، فهل استكثروها لأن أولئك المشتغلين بها لم يُبدعوا شيئاً أو لم يفهموا منها شيئاً؟ هل لذلك علاقة بالأصالة والابتكار؟ وإذا كان هذا صحيحاً فلماذا تُطلق كلمة الفنان على كل من رسم أو نحت أو عزف أو غنى ولم يكن أصيلاً مُبتكِراً أو لم يعترف به حتى الفنانون أنفسهم؟ وإذا قيل إن فلاناً روائي أو قاص ثم قيل إنه قد اقتبس ما كتب من فلان وفلان، واتبع مدرسة معينة، فإنه مع ذلك يبقى روائياً متأثراً بالروائيين العالميين. صحيح أن لفظة الفيلسوف قد تطلق بغير ضوابط على من يستحقها ومن لا يستحقها عند ضياع المقياس، لكنها ليست الوحيدة في هذا، ففي كل مجال متطفلون وأدعياء وضعاف، ووجودهم في هذه المجالات لا يبرر سحبَ الكلمة ممن يستحقها ولو كان واحداً فقط. قيل عن الفلسفة العربية أو الإسلامية أو العربية الإسلامية القديمة إنها لم تكن أصيلة بل هي فلسفة يونانية مكتوبة بلغة عربية، وسواء كان الباحثون مع وجهة النظر هذه أو ضدها فإنهم تحدثوا عن فلاسفة كالفارابي وابن سينا وابن رشد...، فإن جَمعوا أو ترجموا أو وفقوا أو لفقوا أو أعادوا أو شرحوا أو اختصروا فهم بالنتيجة فلاسفة لهم طابعهم الخاص. أما العرب المعاصرون فإنهم لم يُطلقوا على عبد الرحمن بدوي أو فؤاد زكريا أو زكي نجيب محمود أو عشرات غيرهم اسم "فيلسوف". هَب أنهم لم يفعلوا أكثر من أن ترجموا أو تبنوا فكرة أو نشروها أو بسَّطوها أو كتبوا عن أمر من أمور الفلسفة أفلا يستحقون أن يُسموا فلاسفة ولو من الدرجة العاشرة؟ هل كان قليلاً ذلك الجهد الذي بذله فؤاد زكريا على سبيل المثال كتابةً وترجمةً ورأياً؟ لو أنه لم يفعل أكثر من انتقائه لما تَرجَم لاستحق أن يسمى فيلسوفاً. استبدل العرب كلمة الفكر بالفلسفة، والفكر كلمة عامة لا تكاد تحدد شيئاً، ولا بأس من استعمال كلمة الفكر والمفكر إذا لم تكن هناك كلمات أولى منها وأصدق تعبيراً. فيقال المفكرون العرب المعاصرون، ويجمعون في هذا بين من أفنى عُمراً بأكمله باحثاً في الفلسفة حصراً ومَن ألّف كُتيباً في الدين ومن وقف موقفاً في السياسة ومن قال جملة في التربية، وإن كان هؤلاء كلهم مفكرين حقاً فإن هذه الكلمة أصبحت الآن تُستعمل لكل من ليس له صفة محددة، وكأنهم احتاروا بِمَ يعرِّفونه ويقدمونه للناس فقالوا إنه مفكر عربي أو إسلامي... إن غياب كلمة الفيلسوف يعد طعناً بجهود كبيرة قد بذلها كبار في هذا المجال، ولو كان هذا من باب الدقة والضبط لرحبنا به لكنه من باب عدم الاعتياد أو الخوف من استعمالها بعد غياب طويل.

د. فيصل غازي مجهول
(المؤتمر، العدد (1136)، 27 حزيران 2006)
.

author-img
فيصل غازي مجهول

تعليقات

google-playkhamsatmostaqltradent