ارتبطت الماركسيةُ في أذهان كثيرين بالمسألة الدينية، ومَن لم يفهمْ الماركسية فلسفةً واقتصاداً واجتماعاً فهمَ أنها كانت ملحدةً غير مؤمنة، وقد حفظ عن ظهر قلب قول ماركس "الدين إفيون الشعوب" ذلك القول الذي لا يُنكر أحدٌ أن ماركس قد قاله، لكن هل قاله لأنه نصب العداء للدين بوصفه وجهةَ نظرٍ في العلاقة بين الإنسان والإله وحسب، أم لأنه مسألة ترتبط بالاقتصاد والاستغلال والحقوق؟ وهل كان الإلحاد، أم الاقتصاد أو الضمان أو التغيير، أهم ما تمتاز به الماركسية؟
مثلما ارتبط الإلحاد بالماركسية فإنه قد
ارتبط أيضاً بالوجودية التي أصبحت مرادفةً له وما هي كذلك، وغاب عن أولئك الذين
جعلوهما مترادفين أن كيركجارد رائد الوجودية كان مؤمناً من نوع خاص، وأن سارتر
واحد من بين مجموعة من الوجوديين، وأن ما يجمعهم ليس الإلحاد والإيمان بل فكرة
أخرى، وأن التصنيف في الوجودية ليس بنافعٍ، فقد رفضوه جميعاً وما دافعوا عن مذهب
لأن لديهم ما هو أعظم.
لم يكن الإلحاد حكراً على الماركسية ولم
يكن في تاريخِ الفكر نوعاً واحداً. هو كالإيمان أشكال وأنواع، هو نظرة وفكرة عند الإنسان
منذ أن كان. إن كلمة الإلحاد واسعة الدلالة وقد خضعت كأي كلمة أخرى لتطور دلالي،
وقد تجمع هذه الكلمة أنواعاً كثيرة من المفكرين يصعب جمعُهم. وقد أُطلقت بغير
تحديد على من لا يؤمن بدين معين، أو على من آمن بفكرة لا تخرج عن الدين، أو من
خالفَ ديناً رسمياً مسيطراً، أو لم يؤدِ طقساً دينياً، أو لم ترضَ عنه جماعةٌ ما،
أو خالف عُرفاً اجتماعياً أو خرج عن أخلاق سائدة. وربما استُعملت كلمة المادي
مرادفاً للإلحاد وهي لا تؤدي الغرض أيضاً، وكلها كلماتٌ تحوم حول وصفِ فكر أو سلوك
معين.
عن أي دين كان ماركس يتكلم؟ ليس نقد ماركس
للدين انتصاراً لدين على دين، قد يُقال إنه نقد واحداً من الأديان لا كلها وهذا
ممكن بحسب النشأة والبيئة الفكرية والمتلقي، لكنه قد وقف ضد الدين بوصفه أداة
للاستغلال ولم ينقده نشاطاً فكرياً له مسوغاته، كانت دعوته موجهة ضد الاستغلال
كيفما كان، سواء لبس ذلك الاستغلال لباس الدين أو الفلسفة أو الاقتصاد.
لم يكن نقد الدين غريباً عن الأوساط
الثقافية الأوربية، فقد نشأت في أوربا حركات ودعوات ناقدة للدين قبلهما بكثيرٍ،
وما كان ماركس في هذا الجانبِ إلا نتيجةً من نتائج تلك الحركات التي ناهضت الدينَ
ورجاله فمهدت له ليقول ما يقول. وعندما أضحت الماركسية ديناً أو شبه دين تعرضت
لنفس النقد الذي وجهته هي نفسها للدين، وجعلها بعض الماركسيين إفيوناً، ويبدو أن
أية فكرة تُتبع اتباعاً أعمى وتكتسب صفة القدسية تتعرض للنقد نفسه.
ما كان ماركس من الذين يؤمنون بفكرة
التوفيق، بل كان يتخذ موقفاً حاداً صارماً، فقد نقد غاسندي لأنه حاول أن يوفق بين
وعيه الكاثوليكي وعلمه الوثني من جهة وأبيقورس والكنيسة من جهة أخرى، رأى في هذه
المحاولة جهداً ضائعاً، هذا ما قاله في مقدمة أطروحته للدكتوراه الفرق بين فلسفة
الطبيعة عند ديمقريطس وفلسفة الطبيعة عند أبيقورس. لقد كان ضد محاولات التوفيق
كيفما كانت، وكان له من القوة ما يبعده عن محاولات التوفيق الضعيفة، لذا حاول
تقريب المسائل من العلم، حاول البحث عما يجمع ولم يَسر وراء نسبية لا حدود لها.
إن الإنسان عند ماركس هو الذي يصنع
الدين وليس الدين هو الذي يصنع الإنسان، وهذا هو أساس النقد غير الديني عنده، قال
في نقد فلسفة الحقوق عند هيجل: "إن الدين هو وعي الذات والشعور بالذات لدى
الإنسان الذي لم يجد بعد ذاته، أو الذي فقدها. لكن الإنسان ليس كائناً مجرداً
جاثماً في مكانٍ ما خارج العالم. الإنسان هو عالم الإنسان، الدولة، المجتمع. وهذه
الدولة وهذا المجتمع يُنتجان الدين، الوعي المقلوب للعالم، لأنهما بالذات عالم
مقلوب. الدين هو النظرية العاملة لهذا العالم، خلاصته الموسوعية، منطقه في صيغته
الشعبية، موضع اعتزازه الروحوي، حماسته، تكريسه الأخلاقي، تكملته الاحتفالية،
عزاؤه وتبريره الشاملان. إنه التحقيق الوهمي للكائن الإنساني، لأن الكائن الإنساني
لا يملك واقعاً حقيقياً. إذن فالصراع ضد الدين هو بصورة غير مباشرة صراع ضد ذاك
العالم الذي يؤلف الدين نكهته الروحية".
أراد ماركس من الإنسان أن يفكر ويفعل
ويكيف واقعه بوصفه إنساناً تخلص من الأوهام وبلغ سن الرشد. ورأى أنجلز في
"حرب الفلاحين" أن "الأيديولوجيا الألمانية، رغم التجارب حديثة
العهد، لا ترى في صراعات العصر الوسيط سوى مشاجرات لاهوتية عنيفة. فلو تمكن الناس
في ذلك العصر من الاتفاق على الأشياء السماوية لما بقي أي سبب للخصومة حول أمور
هذا العالم". حتى ما يدعى حروب الدين في القرن السادس عشر، كانت المسألة قبل
كل شيء مسألة مصالح مادية طبقية أكيدة تماماً، وإن هذه الحروب كانت صراعات طبقية،
تماماً كالمصادمات الداخلية التي حصلت فيما بعد في إنكلترا وفرنسا. إذا كانت هذه
الصراعات الطبقية قد اتخذت، في ذلك العصر، طابعاً دينياً، إذا كانت مصالح مختلف
الطبقات وحاجاتها ومطاليبها قد تسترت بقناع الدين، فذلك لا يبدل من الأمر شيئاً،
ويمكن تفسيره بسهولة بشروط العصر". وقد نقد انجلزُ لوثرَ نقداً لاذعاً.
يقول إنجلز في أنتي دوهيرنغ "إن كل
دين ليس سوى الانعكاس الواهم، في دماغ البشر، للقوى الخارجية التي تسيطر على
وجودهم اليومي، هذا الانعكاس الذي تتخذ فيه القوى الأرضية شكل قوى فوق أرضية. في
بدايات التاريخ، كانت قوى الطبيعة هي الخاضعة لهذا الانعكاس الذي يتحول، لدى مختلف
الشعوب، إلى التشخيصات الأكثر اختلافاً وتنوعاً". وقد كان انجلز متفائلاً
بالمعرفة التي تطرد الآلهة واحداً تلو الآخر، يقول: "إن المعرفة الحقة للقوى
الطبيعية هي وحدها التي تطرد الآلهة أو الإله من موقع بعد الآخر"، وما درى أن
الآلهة لا تتنازل عن مواقعها المتبقية لها بسهولة، فالآلهة القوية قد تطرد ذوي
المعرفة الحقة على رغم الطبيعة.
لم يتكلم ماركس كثيراً عن العالم الآخر،
فهذا ليس من شأنه، ولم يكن موقفه من الدين عداءً شخصياً لرجاله، فقد وقف مع البابا
في بعض المسائل، قال: "عندما أرادوا في البدءِ جعلَ الحلفِ المقدس حلفاً شبه
ديني بين الدول، بحيث صار الدين شعاراً للدول الأوربية، فإن البابا هو الذي رفض
الانضمام إلى هذا الحلف المقدس، فدلَّكَ بذلك على كثيرٍ من العمق والحصافة، وذلك،
كما قال، لأن الرباط المسيحي الكوني بين الشعوب هو الكنيسة، لا الدبلوماسية ولا
الحلف الزمني بين الدول". حاول أن يفصل السياسة عن الدين وقد ضرب لذلك مثلاً
من مجال علمي عملي "كما أنك لا تسأل الطبيب عما إذا كان مؤمناً، كذلك لا
ينبغي لك أن تسأل عن ذلك في السياسة".
لقد
سعت جهاتٌ كثيرةٌ إلى أن تضخم الإلحاد الماركسي منطلقةً من أن الإلحاد شر، محاولةً
أن تستغل واحدةً من دلالات الإلحاد كي تخلطه بالشر ثم تثبت أن الماركسية التي تبنت
الإلحادَ داعيةٌ للشر، وتثبت أنها وقد تبنت الإيمانَ داعيةٌ للخير، وهكذا جعلوها
حرباً بين الخير والشر، وكل ما في الأمر أن أعداءها قالوا نحن من معسكر الخير أفلا
تريدون أن تكونوا معنا؟
إذا هادنت الماركسيةُ الدينَ الآن فلأنها واقعة بين ثقافة جماعات وثقافة أفراد، بين جماعات ترى أن الحل لا يكون إلا دينياً وأفراد لا يقفون ضد الدين لكنهم لا يرون الحل دينياً. وإذا هادن أعداؤها الجميعَ فإنهم لا يهادنون أي تيار ماركسي، فهل يضيعون كل تلك الجهود الجبارة التي بذلوها من أجل القضاء عليها؟ وهل قاموا بكل ما قاموا به من أجل أن يعلو صوت الماركسية الذي ينبغي عليهم أن يُسكتوه بأي ثمن؟ وما أشاعوا إلا كلامَ أراذلِ الماركسيين أو سلوكهم مثالاً إعلامياً سيئاً كلما أرادَ أحدٌ أن يذكرَ محاسنَها قيلَ له ذلك هو مثال الماركسية فهل تريد أن تحتذيه؟ إن لمأزق الماركسية جوانبَ عدة، منها جانب عالمي قد سيطر عليه أعداؤها، وجانب شعبي لا يرى فيها إلا كفراً وإلحاداً، وجانب سياسي هو أن الدول الاشتراكية قد سقط كثيرٌ منها وضربت مثالاً على سوء الإدارة، وأحزاب قومية قد نصبت العداء لها وشوهت صورتها. فبأي لهجة تتكلم وبأية لغة؟ وهل ينفعها سجل الضحايا الذين قدمتهم؟ بدأ الماركسيون بالتعامل مع الدين براجماتياً لأنه سمة هذا العصر، فكل ما يفتقر إلى الشرعية الدينية يعد باطلاً. وما مراحل التاريخ إلا مد وجزر، وربما لم يصل المد الديني حتى الآن إلى أعلاه.
د. فيصل غازي مجهول
(الصباح، العدد (614)، السبت 30 تموز 2005).