recent
أخبار ساخنة

فتجنشتاين بين الرسالة والبحوث الفلسفية

مر فتجنشتاين بعد تأليفه "رسالة منطقية فلسفية" بمرحلة تحول، فأخذت أفكاره تبتعد شيئاً فشيئاً عما جاء في ذلك الكتاب، حتى تبلورت فلسفته الجديدة في كتابه "بحوث فلسفية" أو "أبحاث فلسفية" (Philosophical Investigations).

فتجنشتاين

ومن بين الأفكار التي تخلى عنها فكرة أن هناك أشياء بسيطة هي المكونات النهائية للوقائع الذرية، وأن القضية غير الأولية يمكن تحليلها إلى قضايا أولية، وموضوعات أخرى. أي أنه رفض فكرة الذرية المنطقية وما يترتب عليها من نتائج، واتجه إلى معرفة الطريقة التي تستعمل بها الألفاظ، فتخلص من تأثيرات رسل واقترب من مور، وأدرك أن اللغة ظاهرة اجتماعية لا تنفصل عن الاستعمال المألوف لها. واعتمدت طريقته الجديدة في تحليل المعنى على تحليل اللغة وملاحظة كيفية عملها في الحياة اليومية، فرأى أن اللغة مجرد أداة لتحقيق الأغراض والحاجات الإنسانية، وهي أداة تعمل في الحياة بطرق مختلفة لتحقيق حاجات مختلفة.

لقد رأى بعض الباحثين أن فتجنشتاين قد دمر رسالته تدميراً ذاتيا في الفقرة "6.54" القائلة: "إن قضاياي لتوضح الموقف على النحو التالي. إن من يفهمني سيعلم آخر الأمر أن قضاياي كانت بغير معنى، وذلك بعد أن يكون قد استخدمها [سُلماً] في الصعود، أي صعد عليها ليتجاوزها. (بمعنى أنه يجب عليه أن يلقي بالسلم بعيداً، بعد أن يكون قد صعد عليها). يجب عليه أن يعلو على هذه القضايا، حينئذ يرى العالم بطريقة صحيحة ".

وعد آخرون هذه الفقرة مناقضة لما جاء في مقدمة الرسالة: "إن الأفكار التي سيقت هنا، يستحيل الشك في صدقها أو هي فيما أرى أفكار مقطوع بصحتها". وقد أهمل بعضهم الآخر هذه الفقرة لأنها تسبب مشكلات كثيرة، والأخذ بها يعني أن كل ما جاء في الرسالة لا معنى له. ووجد غيرهم أن هناك دوراً في الرسالة. لكنني لا أرى فيها دوراً إذا أخذنا بالحسبان التمييز بين القضايا التي تشير إلى مجموع قضايا، والقضايا التي لا تشير إلى مجموع قضايا، أي على طريقة رسل في تقسيم القضايا: قضايا من المستوى الأول – وهي التي لا تشير إلى مجموع القضايا – وقضايا من المستوى الثاني – وهي التي تشير إلى قضايا من المستوى الأول … وهكذا . وما أشبه هذا الأمر بمشكلة ابميندز الكريتي القائل "كل الكريتيين كذابون". ومهما تكن مقاصد فتجنشتاين فانه عد قضاياه سلماً صعد عليه ليصل إلى مكان يرى فيه العالم بصورة واضحة، ثم ألقى بالسلم بعيدا.

         بالتأكيد هناك اختلافات كثيرة بين أسلوب الرسالة ومحتواها وأسلوب "بحوث فلسفية " ومحتواه، لكن هذه الاختلافات قد بولغ فيها مبالغة كبيرة. إذ أن كثيراً مما جاء في "البحوث" قد افترضته الرسالة. ويقول عبد السلام بنعبد العالي وسالم يفوت عن فتجنشتاين: "لابد من النظر إلى فلسفته على أنها تشكل كلاً متراصاً لا انفصام بين أطرافه، إذ المشاكل التي عرضها في مؤلفاته الأولى لا زالت تحتل نفس الأهمية في مؤلفاته المتأخرة، وان كانت قد عولجت من منظور مجدد يغير أحياناً شكلها وصورتها".

وقد كتبت دراسات كثيرة عن هذا الموضوع، مثلا دراسة بيتر ونج "وحدة فلسفة فتجنشتاين" الذي يقول: "أحد أهدافي الرئيسة سيكون مقاومة الفكرة الواسعة الانتشار التي تبدو لي خاطئة …، وهي أننا نتعامل مع فيلسوفين مختلفين: "فتجنشتاين المبكر" و "فتجنشتاين المتأخر".

         كانت تشغل فتجنشتاين مشكلتان أساسيتان هما: طبيعة الحقيقة المنطقية وطبيعة الذهن، وقد شكلت هاتان المشكلتان كتابيه الرسالة والبحوث. وقد قال بعض المفكرين بأن عظمة فتجنشتاين تكمن في كتابه الأول، وقال بعضهم بالعكس، ولا أريد أن أوازن بين تلك الآراء، فالعظمة والأهمية نسبية. لكن هناك رأياً لرسل عن فتجنشتاين في مرحلته الثانية لابد من ذكره، إذ لم يجد رسل أي شيء مهم في "بحوث فلسفية"، بل هو يستغرب من الذين يجدون فيه شيئاً مهماً، ويرى أن فتجنشتاين المتأخر قد تعب من التفكير الجدي، وان فلسفته في احسن الأحوال تمثل مساعدة طفيفة لمؤلفي المعجم، وفي أسوأ الأحوال تسلية تافهة.

من بين اوجه الشبه بين الكتابين أن كليهما قد اهتم بوضع حدود للمعنى، وهذه الحدود بالطبع مختلفة، لكن رسم الحدود كان من أهداف فتجنشتاين الأساسية في الكتابين. وبهذا يكون قد واصل، بطريقته الخاصة، العمل الذي بدأه في الفلسفة الحديثة لوك وهيوم وكانت. وما هو مشتركٌ بينهما أيضاً المفهومُ العام للمشكلة الفلسفية، مصدرها أو سببها، وحلها، على الرغم من ان تفاصيل المفهومين مختلفة جذرياً. فمن الممكن أن تزال المشكلات، سواء في الرسالة أو في البحوث، من خلال الدراسة المتأنية للغة. وفي الكتابين كليهما تؤسس مشكلات الفلسفة على سوء الفهم، وعندما يُزال سوء الفهم هذا تختفي المشكلات.

د. فيصل غازي مجهول
(الصباح، العدد (363) السبت 18 أيلول 2004)


author-img
فيصل غازي مجهول

تعليقات

google-playkhamsatmostaqltradent