الدكتور حسام محيي الدين الآلوسي
" في الغلط والمغالطة " عنوان يثير القارئ من أول نظرة، يثيره بدافع الفضول أو التساؤل. أي غلط، وأية مغالطة؟ فهل هو مدخل للأخلاق، مما يثاب المرء عليه أو يعاقب، أم هو في اللفظ والإعراب وما شابه؟
وحينما يقرأ فهرسة موضوعات الكتاب لن
يزداد إلا غموضاً وضرباً على غير هدى، وفقط، ربما في الفصل الرابع، ربما رجح عنده
أنه كتاب في المنطق. والمنطق ليس من الموضوعات الأثيرة عند المثقف، فضلاً عن
القارئ العادي، لكن هذا كله ينقلب إلى ابتسامة فرحة ورضا حالما يقرأ القارئ أول
صفحة من الفصل الأول، فيجد نفسه في أمر يفهمه ويعنيه، بل يزاوله صبح مساء، عن قصد
أو غير قصد، وعن دراية أو غير دراية. وهذا أمر يجعل القارئ كمن كُشف عنه غطاؤه،
فصار يبصر بعد عمى، ذلك أن كل هذه الأشكال من الغلط والمغالطة التي تتابع في فصول
هذا الكتاب، وبالأمثلة التي قدمت بين يديها للتوضيح، فيها شبه إدانة، شبه تعرية
لنا، نحن البشر، حيث نزاولها بكلمات، بحديث أو برمز أو إشارة، أو هزة رأس أو برفع
صوت، أو بغمزة عين، أو ما شئت من وسائل التعبير بكلام أو بإشارة، فلا أحد منا لم
يمارس مثل هذه الوسائل التي تخفي أو تعلن غلطاً أو مغالطة، تدليساً أو بهتاناً، أو
خداعاً أو إيهاماً، أو غمزاً أو لمزاً.
وهذه هي أهمية
هذا الكتاب، فهو يكشف عن ضعفنا، وربما عن إغراقنا وغرقنا في تسفيه غيرنا ومخادعته،
والتهرب من الحق، أو الإصرار على الخطأ، وبوسائل مختلفة، ربما بدافع من اعتقادنا
بصحة رأينا، أو رغبة في الغلبة. ويبدو أن كل ما قدمته حتى الآن لتوضيح ما أقصده،
وما إليه قصد المؤلف لا يزيد الأمر إلا غموضاً، طالما لم تُقدم له أمثلة هنا، لذلك
لا مناص من إيراد عدة أمثلة وأشكال من الغلط والمغالطة تفي بإيضاح ما أراده
الكاتب، وما أرادته هذه المقدمة.
في البداية
نكرر مع المؤلف أن الإنسان غلط وغالط منذ أن كان، والغلط كل شيء يعيا الإنسان عن
جهة صوابه من غير تعمد، فإذا عمد إليه فهو المغالطة، والأغاليط على أنواع منها ما
يتعلق بالإشارة المفهومة والكلمة المنطوقة والمسموعة والمكتوبة والمقروءة، ومنها
ما يكون بالقضايا والاستنتاج. والمغالطات قد تقسم إلى لفظية ومعنوية، أو حسب هدفها
إلى دفاعية وهجومية وقد تكون متعة أو إحراجاً أو نفعاً أو حلاً لمشكلة أو
امتحاناً. المغالط يفهم الأشياء فهماً حقيقياً صحيحاً فيستغلها من أجل هدف معين.
لكني أرى أن المغالطة على أي وجه ظهرت ولأي هدف لا تليق بإنسان يحترم نفسه ويحترم
الحق والصدق، أي كسلوك أخلاقي.
إن هذا الكتاب
قد يعين القارئ من خلال الأمثلة، وتصنيف مواضع الغلط والمغالطة على النجاة من
الوقوع في الغلط من خلال معرفته مواقع المغالطة، كما أنها تمكن الشخص المتعرف على
وجود المغالطة من مدافعة المغالطين وكشف مداخل غلطهم. والآن أحاول أن أعين القارئ
على فهم أشكال من المغالطات بالأمثلة، دون ذكر أبوابها وصنفها، كما فصل المؤلف،
فمن الأغاليط انتقاءات الحالات السلبية، أو اقتباس قول لإسناد رأيه، بينما يهمل
قولاً آخر معه، يخالف رأيه. أو أن ينقل أقوالاً حقة في مكانها فينقلها من مجالها
ويستعملها في مجال آخر، لغرض الفتنة العرقية أو الطائفية أو التعبئة لمعركة. ومن
أمثلة المغالطة أن يذكر المغالط حسنات زمن ما، ويستبعد جميع الوقائع التي تنقض هذه
الحسنات. ومن الأغاليط الشائعة أخذ ما ليس بعلة على أنه علة وسبب، مثلاً أن يزرع
إنسان زرعاً حسب شروط الزرع، فيثمر، ولكنه ينسب كل ذلك لأنه قدم قرباناً لصنم
مثلاً. ومن أنواعها تعميم الشهرة، كأن يستشهد المغالط برأي متخصص مشهور في
الفيزياء، في أمر من أمور السياسة، ليس له فيها كبير دراية. وربما أوهم شخص نفسه؛
بأنه قادر على حل كل المشكلات العلمية والاقتصادية، والزراعية، وكل الحرف
والصناعات، وكل أمور المجتمع، طالما أنه نحرير فهامة في أمور الدين أو اللغة، أو
أي تخصص وحيد. وأكثر معضلات الحكم الديكتاتوري، سواء العلماني، الليبرالي، أو
الثيوقراطي إنما يدخل من هذا الباب البلاء في الأغاليط.
هذا قليل من
كثير، ويمكن القول إن من يقرأ هذا الكتاب، الصغير الحجم، الكثير المعنى والعطاء،
أنه – أي الكتاب – أوصلنا إلى مفارقة وهي: كلنا يعلم أن المناطقة المشائيين
اعتبروا السفسطة، وهي الاسم الآخر للمغالطة والغلط، من أقسام المنطق الصوري، لكنها
لا تصل إلى أهمية أقسام المنطق الرئيسة، كالبرهان والجدل، لكن هذا الكتاب يظهر أنه
بقدر ما يتعلق الأمر بأمور الناس وتواصلهم الاجتماعي، وأمور الحياة البسيطة،
للعامة والخاصة، فإن هذا القسم أي الغلط والمغالطة هو أنفع أقسام المنطق وأوسعها
حضوراً وتأثيراً وظهوراً، في كل زمان ومكان، وأنها تنبض بالحياة، يزاولها الإنسان
بأي مستوى كان، عامياً أم عالمياً؛ وأنها تتعلق بالنفس البشرية، وموارد نقصها
وعيوبها من حب للخداع للانتصار، أو الأداء، أو لأي غرض مادي أو معنوي، بينما قد
يخفى أو يكاد يخفي اثر أقسام المنطق الأخرى، اللهم في نطاق ضيق أو لنقل أقل
اتساعاً وشيوعاً من هذا القسم "الغلط والمغالطة".
إنني مسرور لأن
أقدم لهذا العمل اللطيف والنافع، والذكي، وليس ذلك غريباً على الدكتور فيصل، فأنا
على معرفة به، حيث كنت أرتاح له ولذكائه ولثقافته وهو بعد في مرحلة البكالوريوس في
الفلسفة، ثم ازداد إعجابي به، مع المراحل اللاحقة لدراساته العليا للماجستير
والدكتوراه. ولي ثقة كبيرة أنه سيحقق في القادم من أعماله وعمره كل ما يبرر أن
أقول: إن الدكتور فيصل الذي ما زال في بداية مشواره وشبابه، هو أحد أفضل أقرانه
الواعدين، بما ينفع الفلسفة، والفكر في العراق والعالم الأوسع، في زمن يحسب أنه
يعيش بلا فلسفة، وبلا فكر، وربما بلا هدف.