الدكتور فيصل غازي مجهول، أستاذ الفلسفة في كلية الآداب، وهو حالياً يشغل منصب عميد كلية الآداب، جامعة بغداد.
لديه مجموعة من الكتب والأبحاث والمقالات المنشورة، منها: نقد ابن رشد لإلهيات ابن سينا، تحليل اللغة في رسالة فتجنشتاين المنطقية الفلسفية، في الغلط والمغالطة، على ضفاف الفلسفة، أغنية وموعظة. وآخر ما نشره بحث بعنوان "طه حسين والمسألة الدينية".
* ما هو توصيفك لأزمة الفكر الفلسفي العربي؟ وما هي عوامل وأسباب هذه الأزمة من وجهة نظركم؟
- هي أزمة ثقافة قبل أن تكون أزمة فكر فلسفي. وقد تشمل
الأزمة مجالات عدة في الفكر العربي. ولا نستطيع أن نعزو الأزمة إلى سبب واحد، فهناك
مجموعة من الأسباب الداخلية والخارجية قد أدت إلى هذه النتيجة. لكن الضعف قد يكون
في مجال أكثر من المجالات الأخرى، ومنها الفلسفة. إن الحديث عن الفكر العربي بشكل
عام ليس منصفاً، فهناك غياب تام للفلسفة في بعض الدول العربية ولو على الصعيد
الرسمي الشكلي، وهناك تراجع في بعضها الآخر. لكن هناك تقدماً، وإن كان بطيئاً بحسب
المقاييس العالمية، في مجال الترجمة، إذ نجد أعمالاً فلسفية كبرى تُرجمت في
السنوات الماضية إلى اللغة العربية، كما تُرجمت بعض الأعمال ترجمةً ثانية لتلافي
بعض النقص الموجود في الترجمة الأولى، فظهرت أعمال كنا نتمنى أن نقرأها مترجمةً
إلى العربية قبل سنين طويلة. أما التأليف فهو متفاوت بحسب الشخص المؤلف.
الفلسفةُ مرحَّبٌ
بها في الأوساط التي لا تدعو إلى فكر واحد، تؤمن بالشك منهجاً، تُقدر الاحتمال،
تعترف بأنها لا تمتلك الحقيقة المطلقة، تصر على البرهنة، تتريث في الحكم، وهذا ما
يتفاوت وجوده في الأوساط الثقافية العربية، لا سيما بعد سيادة خطاب انفعالي قطعي
إقصائي ذي نظرة أحادية.
* هل يخلو الفكر الفلسفي العربي من العقل الناقد؟
- كلا، لا يخلو من عقل ناقد. فقد أنتج الفكر العربي
نقاداً كباراً، بعضُهم معروف في الأوساط النخبوية والتخصصية. أما إذا ما كانوا
إعلامياً واجتماعياً معروفين أو غير معروفين، مؤثرين أو غير مؤثرين، فتلك مسألة
أخرى تتعلق بحركة الثقافة في المجتمعات.
هناك مستويات للعقل الفلسفي، المستوى الأول: فردي شخصي،
وهو ميل شخصي لهذا النوع من التفكير، يطوره الشخص بنفسه، وهو أقرب إلى أن يكون هواية،
من دون البحث عن أسباب أو مبررات وجود. وهذا ما تراه موجوداً متحققاً عند كل محب
ومهتم بالفلسفة عندنا.
المستوى الثاني: بيئة اجتماعية وثقافية ترعى هذا
الاهتمام وهذا الميل. وهذا متفاوت بحسب المنطقة والسلطة.
المستوى الثالث: حركة قوية خلاقة تفرز اتجاهات ومدارس
فلسفية. هذا غير موجود بشكل واضح، وإن كان بعضهم يُحاول أن يحدد ملامح مدرسة أو
مدارس هنا وهناك في العالم العربي.
إن من المراحل
التي تمر بها الفلسفة مرحلة الدفاع عن نفسها وعن شرعية وجودها. وقد يكون معيار
الحلال والحرام أكثر بروزاً من معيار "الثقافي وغير الثقافي" أو
"المُجدي وغير المجدي" أو "النافع وغير النافع" نظرياً
وعلمياً وعملياً... ويختلف الأمر إذا كانت الضربة الموجهة إلى الفلسفة من العلم أو
الدين أو حتى من الفلسفة نفسها.
* هناك من المفكرين من يرجع أزمة الفكر العربي إلى غياب الرؤية المستقبلية للمجتمع العربي، ما رأيك؟
- إن المجتمعات العربية يحركها الماضي أكثر من المستقبل،
الماضي هو العصر الذهبي، الماضي هو الأصالة. إنها تنظر إلى الماضي أكثر مما تنظر
إلى المستقبل، لأن القمة كانت في الماضي، القمة خلف ظهورنا، والتقدم لا يعني إلا
انحداراً من القمة، ومهما اجتهدتَ فلن تحقق ما تحقَّقَ في الماضي. لكن المجتمع
والمتحكمين به والمؤثرين فيه ينتقون من الماضي ما يرونه صحيحاً. ومفهوم الماضي عام
شامل من الممكن أن تستنهض منه ما تريد، لكنهم يريدون فكراً يتفق مع مصالحهم
وقناعاتهم.
والكلام عن
المستقبل لا يعني بالضرورة التقدم والتطور أو التغير نحو الأفضل، فقد يكون الوعد
بمستقبل أفضل تخديراً وخداعاً.
* هناك من يعتقد أن جيلاً من المفكرين العرب مر بعصر النهضة في العشرينات من القرن المنصرم وأجيالاً أخرى بعد ذلك لم تمر بهذا.. ما تصورك لهذه القضية؟
- ذلك الجيل الذي تقصده لم يمر بعصر النهضة، بل كانوا
قادةً لتلك النهضة. واذا كانت هذه الكلمات استعارات من حركة الكائن الحي، كاليقظة
والنهضة أو الولادة والنمو والسبات والانحلال... فإن الفكر قد مر بيقظة، ثم نهضة،
وهذا لا يمنع من أن تكون هناك نكسة أو موت أو مرض مزمن. كانت النهضة هاجسهم
ومحركهم، وكان هناك تقدم ملموس. وتعقدت المسائل أكثر فأكثر، من سيادة الأنظمة
الدكتاتورية الشمولية والفكر الواحد إلى القيادة البترولية للعرب اقتصادياً وسياسياً
وإعلامياً.
* هل يمكن تقسيم العالم في حديثه وقديمه إلى قسمين: حضارة أوربية في الشمال نتاجاً لفكر فلسفي أوروبي وحضارات في الجنوب نتاجاً لفكر ديني؟
- هذا موضوع شائك قد تناولتُه سابقاً، وهو وجهات نظر في
أسبقية الفلسفة بين الشرق والغرب، أو كما تسميه أنت "الشمال والجنوب".
لكن الفكر الديني لم يكن بعيداً عن الحضارة الأوربية، سلباً أو إيجاباً، ولم يكن
الدين ضعيفاً عندهم. في اليونان كان هناك آلهة ودين، لكن لم يكن عندهم كتب مقدسة
ومفسرون وشُراح ولاهوت، كل هذا لم يمنع من أن يُتهم الشخص بالكفر أو سب الآلهة،
كما حدث مع بعض الفلاسفة مثل بروتاغوراس وسقراط. صحيح أن التهمة قد تكون سياسية أو
عداء شخصياً، لكن السبب المقبول أن تكون دينية. ثم ازدادت الهيمنة الدينية في
العصر الوسيط وحدثت مآس كبرى بسبب تسلط رجال الدين. ولم يتخلص الفكر الأوربي من
الهيمنة الدينية إلا بعد حروب طاحنة وتضحيات كبيرة. ولم تنتهِ المسألة بالإقصاء بل
بتقسيم مناطق النفوذ، وقد توصلوا الى فصل الدين عن كثير من المجالات. ولم يكن هذا
بجلسات هادئة ومناقشات علمية، بل بصراع حقيقي بجميع مستوياته.
قد لا يتعلق الأمر بمفهوم الدين قدر تعلقه بالسلطة التي
تمارس الوصاية على كل شيء. فالدين والعلم والفن والسياسة كلها موجودة، والمشكلة
تتعلق بتحديد العلاقة بينها.
* د. فيصل، كيف نعطي الانسان الثقة في القدرة على الإبداع؟ وما السبيل إلى ذلك؟
- المبدع مبدع، وليس عليك إلا أن تشجعه وتحترم إبداعه.
والإبداع موجود عندنا سواء كان في قصيدة أو مقطوعة موسيقية أو لوحة أو بحث علمي.
لكن الإبداع يحتاج إلى تشجيع ورعاية من أشخاص ومؤسسات.
وإذا استعملنا كلمة "إبداع" أو "عمل
متميز" فإن الأمر يحتاج إلى دعم ومستلزمات وأجواء مشجعة لا معرقلة. فما فائدة
عقلية علمية كبيرة بلا مختبر؟ وما فائدة إنتاج أفلام سينمائية بلا دور عرض؟
إن مشكلة بعض الأنشطة
الثقافية العربية أنها مبنية على الكم والكثرة ذات هدف عملي مؤقت. وتجعلك القضايا
الشكلية تعيشُ في حلم أنك مبدع.. ولا إبداع، أنك عالم.. ولا علم، أنك مؤثرٌ.. ولا
تأثير. فالإبداع - والثقافة والعلم والتطور في مجال التخصص – لا يتم بالشكليات.
* هل صحيح أننا نعيش عصراً بلا نظريات وسيادة الفكر الواحد والإمبراطورية الأمريكية ومحاصرة "الفيلسوف" أو "المفكر الفلسفي"؟
- النظريات كثيرة، بل لا أكثر من النظريات والتنظير
والمنظرين. أما سيادة الفكر الواحد فهي موجودة، وقبل أن ننسبها للامبراطورية
الأمريكية فهي موجودة في مجتمعاتنا بشكل واضح. أما عن الامبراطورية الأمريكية
ومحاصرة الفيلسوف، فليس الفيلسوف وحده المقصود، بل كل إنسان يتمتع بفكر نقدي حر.
من جانبٍ يحارب الأمريكان الإرهاب والتطرف، ومن جانب آخر يدعمون ويُشجعون الحركات
التي تدعم الإرهاب، يغضون النظر عن رعايا دول تُشجع الإرهاب نظرياً وعملياً،
ويعاملون رعايا دول مبتلاة بالإرهاب على أنهم مشاريع إرهابيين. إنها ليست محاصرة
لفلسفة أو فن أو شعر أو علم، بل محاصرة لكل ما يضر مصلحتهم، وهي مقبولة بعرف
المصالح، مرفوضة بعرف الثقافة.
* كيف تفسر لنا أن العالم العربي يرفض العلمانية؟
- إذا كان التيار الديني المعتدل مرفوضاً في العالم
العربي، فكيف لا تكون العلمانية مرفوضة؟ ولا أريد أن أدخل بتفصيلات عن العلمانية
بكسر العين وفتح العين، لكن ما أريد أن أقوله لك أن للقوى المتطرفة السيادةَ على
الشارع العربي الآن. وبدعم من دول نفطية ومباركة غربية-أمريكية. ولا يشيعون عن
العلمانية إلا أنها ضد الدين وعدو الدين. إذا فُهمت العلمانية أنها ضد الدين فهي
مرفوضة، وإذا فُهمت أنها فصل الدين عن الدولة أو عن السياسة، فإنها بحاجة إلى دفاع
وإقناع، وإذا فُهمت أنها دفاعٌ عن الدين ضد من يريدون إلغاءه، فهذا ما لا يحتاجه
الدين أصلاً في هذه الأيام.
لقد ثارت بعض الشعوب العربية على أنظمة توصف بأنها
علمانية، لكنهم لم يثوروا عليها لأنها علمانية بل لأنها دكتاتورية.
* ما أمنياتك نحو مجتمع أفضل؟ وهل تحلم بمدينة أفلاطون؟
- وإن كان التمني - كما يقال - رأسمال المفلسين، فإني سأكون
رأسمالياً، بل من كبار الرأسماليين في التمني. أتمنى مجتمعاً أفضل، وإن كان الجميع
يتمنى هذه الأمنية، فالأفضل والأسوأ مسائل نسبية.
أحلم بمدنٍ أفضل
وأرقى وأجمل وأنفع من مدينة أفلاطون بألف مرة، مدن متحققة لا مثالية. لا أريد أن
أعيش فيها، لكن أريد أن تكون مدينتي مثلها أو أقل منها بقليل. مدن استفادت من
تاريخ الأخطاء البشرية من أجل التصحيح، مدن تُضمن فيها الحريات الشخصية وحرية
الاعتقاد، غير خاضعة للأمزجة، يمكنُك فيها أن تخطط لأسبوع قادم! أحلم بمدينة تنطبق
عليها صفات المدينة، لا قرية كبيرة يُطلق عليها خطأً اسم مدينة.
أحلم بمدينةٍ ينعم
الناس فيها بالأمن، القتلُ فيها شذوذ.. استثناء.. لا قاعدة. لا نلوم فيها المقتول
عندما لا نستطيع إدانة القاتل. مدينة ممارسة الهواية فيها علنٌ حلالٌ راحة، لا سرٌ
حرام تعب، مدينة لا تختلط قوانينها بالقانون أو العرف العشائري. مدينة فيها أوقات للجد
ووقت للعب. مدينة يجد كلُّ إنسان فيها عملاً يكفل له العيش بكرامة. أحلم بمدينة لا
نمر فيها، في كل عقد من الزمان، بكل ما مر به الانسان في تاريخه، من الجمع
والالتقاط إلى اختراع الكهرباء.
وأتمنى أن أكون سبباً في حياة أو سعادة الآخرين.
أن تكون عندي
قدرةٌ على فعل الخير أكثر من النية.
ألَّا أكون
متشائماً.
ألَّا أصلَ إلى
اليوم الذي أُجبِر فيه طالباً على كتابةِ سطرٍ واحد عني.
ألا أغلف طمعي
الشخصي المادي بغلاف علمي أكاديمي.
ألا أرى شخصيات أحترمها احتراماً كبيراً في الفن والعلم والثقافة، خشيةَ أن تُشوه الصورة الجميلة التي رسمتُها لهم.
حاوره سعدون هليل
(الطريق الثقافي، العدد (66)، 23 آذار 2013).