
فيصل غازي مجهول أستاذ الفلسفة في جامعة بغداد، ولي قصد عندما لا أحدد فرعاً من فروع الفلسفة التي هو أستاذ فيها، لأنه يعرف الفلسفة جيداً منذ طاليس وحتى الوقت الحاضر، ويجيد تدريسها بكل أقسامها ومدارسها، ويجيد فهمها والكتابة عنها والحديث فيها. وحتى الذي لا يعرفه منها لا قيمة له ولا وزن في حسابات الكبار، لا بل لو أراد فهو أقدر الجميع وأبرعهم على الحديث في الجديد منها الذي يتباهى فيه من لا يعرف الفلسفة جيداً... لأنه يجيد اللغة العربية ويجيد التلاعب بألفاظها ويشكِّل عباراتها كما يريد، الأمر الذي لا يجيده أحدٌ من المشتغلين في الفلسفة في العراق إلا مدني صالح.
جاء إلى الفلسفة راغباً فيها ومحباً لها، ذهب إليها لم تفرض عليه، ولم تأت إليه إلا راغبة ومحبة له، طاوعته كثيراً وانصاعت إليه، ولم ينجذب ولم يتأثر إلا بالذي انجذب إليه وتأثر به كبار الفلاسفة والمشتغلين بها من الأفكار.
مثالياً تعتقده للوهلة الأولى وهو كذلك، ومنطقياً تراه للوهلة الثانية وهو كذلك، ومادياً تراه للوهلة الثالثة وهو كذلك. وتراه عقلياً وتجريبياً، وجودياً وماركسياً، لكن الذي لا يمكن أن تراه فيه أنه براجماتي، وقد يتمنى أن يكون كذلك، لكنه لا يستطيع على الرغم من حبه الكبير لهم، لكن، مرغم أخاك لا بطل.
يحب المنطق كثيراً وهو قادر عليه، يتمنى أن يسود النظام ويحكم حياتنا ويتمنى أن تسود الدقة عباراتنا وأن لا يكون للفظ الواحد إلا معنى واحد وأن يسود الوضوح سلوكنا وتصرفاتنا وأن لا تكون للمعرفة إلا لغة واحدة. ويدرك جيداً عدم إمكانية تحقق ذلك، وأكاد أجزم أن قدرته في فهم المنطق وتدريسه والكتابة عنه لا تجد من يمتلك مثلها من المشتغلين في الفلسفة في العراق إلا ياسين خليل.
وما يتفرد به من بين المشتغلين بالفلسفة في العراق معرفته الواسعة في الموسيقى نظرياً وعملياً، وتجربته فيها تزامنت مع تجربته الفلسفية، وخاض ما خاض من تجارب فيها، وهذه مسألة لنا فيها كلام كثير في مناسبة أخرى.
وبين هذا وذاك أنه تنويري من الدرجة الأولى، شغلته المسألة الدينية كثيراً وأحب التنويريين كثيراً وأنشغل بهم، الأمر الذي جعله مغرماً بكبار الفلاسفة والمفكرين الأحرار من العرب والأجانب وعلى رأسهم طه حسين وشبلي شميل وسلامة موسى وعلي الوردي من العرب وبرتراند رسل من الغرب.
لم يتعصب لفلسفة ضد فلسفة ولم يتعصب لفيلسوف ضد فيلسوف إلا تعصب العقل الحر للحرية وللأحرار، وإلا تعصب الأديب والفنان للأدب الراقي وللفن الراقي، وإلا تعصب اللغوي لجمال الإسلوب وبساطته وسلامة العبارة ووضوحها، وإلا تعصب المنفتح للانفتاح في الثقافة وإلا تعصب مدني صالح لبرتراند رسل وبرناردشو وجان بول سارتر ولعبد الرحمن بدوي وزكي نجيب محمود وفؤاد زكريا ولكل العلماء المكتشفين والفنانين المبدعين.
لم يتعصب لبداية الفلسفة ولا لمكانها ولا إلى أين ومتى ظهرت. ولم يذهب مع المغربين لها مثلما لم يذهب مع المشرقين، فلم يتعصب لمن يراها شرقية سومرية بابلية فرعونية مثلما لم يتعصب لمن يراها أثينية أوربية غربية. فلم يهمه من الفلسفة إلا الفلسفة التي ظهرت في اليونان علي يد طاليس والتي ظهرت فكراً علمياً منظماً واضحاً بسيطاً جميلاً.
لم ينظر للمنجز العربي الإسلامي في الفلسفة كما نظر إليه المنغلقون المؤدلجون، ولم ينغلق لتسمية دون أخرى ولم يتعصب مع الذي يراها فلسفة عربية مثلما لم يتعصب مع الذي يراها فلسفة إسلامية. ولم يتعصب إلا للفلسفة من أينما جاءت، وحسم لك مسألة تسمية المنجز الفلسفي العربي الإسلامي برشاقة عالية، حتى عاد أمر التسمية لا يعني لك شيئاً بعد أن تقرأ له معالجته لمشكلة تسمية الفلسفة العربية الإسلامية، وغلق الباب في هذه المسألة أمام من يريد أن يؤدلج الفلسفة أو يؤطرها، وغلق الباب أمام المنغلقين.
لذلك جاءت أبحاثه هذه في المنطق وفي الموسيقى وفي المسألة الدينية وفي بعض مشاكل الفلسفة التي منها تعريفها ونشأتها وامتاز كل ذلك بأنه يعرف ما يقول جيداً ، فلم يلهج بما لا يعرف، لا بل إنه يستحي أن يكتب عن أشياء لا يعرف عنها إلا القليل القليل، مثلما يستحي أن يتحدث عن أشياء لا يعرف عنها إلا القليل القليل. فلو عرف غيره من المشتغلين بالفلسفة أو غيرهم عشر معشار ما يعرفه هو عن الموسيقى والمنطق واللغة، ولو تمكنوا من اللغة عشر معشار ما تمكن منها لأقاموا الدنيا ولم يقعدوها في الكتابة وفي المحاضرة وفي الندوة وفي المؤتمر وفي البيت وفي الشارع وفي المقهى وفي الإذاعة والتلفزيون وفي وفي وفي وفي...
وأنت تقرأ له ترى دقته المتناهية في التوثيق وفي نقل المعلومة، وهذه له لا عليه علمياً وأكاديمياً. كما تشعر وأنت تقرأ له هذه الأبحاث أنه قد حسم الأمر بما يكتب فلم يترك لك رأياً تقوله إلا وقد ذكره، كما لا يختلف عليه اثنان في سلامة العبارة: نحوياً وبلاغياً وإملائياً وجمال الإسلوب ووضوحه ودقته.
إنه بحق وبفخر وريث كبار المشتغلين بالفلسفة على صعيد قراءتها وفهمها وتدريسها، إنه وريث مدني صالح وعبد الرحمن بدوي وفؤاد زكريا وزكي نجيب محمود وبرتراندرسل، تأثر بما تأثروا به، بقصد أو دون قصد، وقرأ الفلسفة وفهمها وتداولها تدريساً وحواراً على منهجهم وعلى طريقتهم، بقصد أو دون قصد. وبين هذا وذاك يمتلك فيصل غازي مجهول قدرة عالية على التفلسف الذي تجد منه شيئاً في هذا الكتاب وتجد منه الشيء الكثير في كتبه الأخرى وحتى في حديثه الشفوي. ففي هذا الكتاب تجدونه باحثاً أكاديمياً رصيناً يكتب بضوابط وشروط الكتابة الأكاديمية ويجيد، وفي كتب أخرى يلتجئ إلى الكتابة الأدبية للتعبير بحرية أكبر عن أفكاره.
تقديم: د. محمد فاضل عباس
قسم الفلسفة، كلية الآداب، جامعة بغداد