بعد مرور مئتي عام على وفاة الفيلسوف الألماني عمانؤيل كانتْ (Kant, Immanuel) (1724-1804)، ما تزال نصوصه قابلة لكثير من القراءات والتأويلات. فقد أثر هذا الفيلسوف تأثيراً كبيراً في الفلسفات التي جاءت بعده، وكان نقطة تحول في الفلسفة الأوربية الحديثة لا يمكن المرور بها من دون اتخاذ موقف تجاهها.
وقد كان لكانتْ حضور في الفلسفة العربية المعاصرة، سواء في الترجمات أو في التأليف. فقد تُرجمت كتبه الأساسية وإن كانت الترجمات متفاوتة، وقد كتب عنه كبار المفكرين العرب المعاصرين، أمثال عبد الرحمن بدوي وزكريا إبراهيم، إضافة إلى وجود مواد كثيرة عنه في كتب مهمة أخرى.
أما
ما أقدمه هنا فهو اختصار لآراء صادق جلال العظم عنه، والتي جاءت في محاوراته
الفلسفية الثلاث التي نشرتها دار الفكر الجديد عام (1990).
اعتمد صادق جلال العظم المنهج التاريخي
في تفسير نصوص كانت، وقد نقد بعض الفلاسفة المعاصرين لاسيما أصحاب التحليل اللغوي،
مثل بينيت، وستروسون الذي ألف كتاباً عن كانت. كان هناك منهجان لتناول فلسفة كانت
هما: المنهج التحليلي اللغوي الذي اعتمده بينيت وستروسون وجميع أتباع هذه المدرسة،
والمنهج التاريخي الذي طبقه العظم في دراسته لنقائض العقل المحض.
يرى العظم أن كانت كان آخر الديكارتيين
العظام والجديين، فهناك وجهات نظر فلسفية تنطوي في العمق على ثنائية ديكارتية
هزيلة. وقد ظلت الثنائية الديكارتية تعيد إنتاج نفسها في الفكر الفلسفي البورجوازي
الحديث والمعاصر بأشكال متنوعة منها الصريح ومنها الخفي، منها القوي ومنها الهزيل،
منها الواعي ومنها اللاوعي، وقد كان كانت من الديكارتيين الصريحين والأقوياء.
عندما يقيم العظم مقارنةً بين كانت
وكوهن يقول بأن ظاهرية كانت أرقى من العدمية المعرفية التي كرسها كوهن ونظر لها هو
وأشباهه. إن هذه العدمية هي من علامات انحلال الظاهراتية وتدهورها باتجاه العبثية
والذاتوية واللامعنى. كانت الظاهراتية عند كانت قد استندت إلى ما يمكن تسميته
بالمثالية الموضوعية، أما عند كوهن فالذي يغيب هو تماماً هذه الموضوعية والذي يبقى
هو تماماً هذه المثالية لا غير. إن كانتْ هو الذي أرسى في الفلسفة الحديثة الأسس
التفصيلية لما يمكن تسميته بأونطولوجيا الذات وابستمولوجيا الذات (المنطق
المتعالي) بإنزاله الواقع المادي الموضوعي إلى منزلة ذلك المجهول الذي أطلق عليه
اسم الشيء كما هو في ذاته والموجود خارج الزمان والمكان والسببية والكم والكيف.
ولا تلغي ظاهراتية كانت كل معنى ممكن
وكل مغزى محتمل لفكرة تقدم العلم كما يفعل كوهن عبر نظريته في التتابع المنفصل
والمفاجئ والعشوائي عموماً للبارادايمات أو النماذج العلمية – المعرفية السائدة.
إن الرجوع إلى كانت شعار مشهور في الفلسفة
الحديثة رفعه أوتو ليبمان في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ولا مانع عند
العظم من الالتزام به الآن ولكن على طريقته الخاصة.
لا يُصنف كانت عادة مع الثنائيين، لكن
العظم صنفه هكذا وميزه عن الديكارتية الهزيلة ووصفه بأنه آخر الديكارتيين الأقوياء
والصريحين. والسبب – عند العظم – في عدم تصنيف كانت مع الثنائيين هو انشغال
الدراسات الكانتية بصورة شبه كلية بنظرية المعرفة عند كانت وإهمال الاونطولوجيا
الكامنة خلفها، هذا من ناحية، أما من ناحية أخرى فإن نصوص كانت وفلسفته كانت قد
خضعت لدراسات تحليلية في غاية التفصيل والتدقيق، لا سيما في ألمانيا، مما أدى إلى
تفتيت نظرته الشمولية إلى مجموعات من المشاكل الفرعية والمسائل الجزئية والتأويلات
التفصيلية التي تتفرع بدورها إلى المزيد من القضايا والمسائل المتشعبة إلى ما لا
نهاية مما يفقد الباحث كل حس بالمسائل الفلسفية الأصلية والرئيسية والكبيرة وبخاصة
الأونطولوجيا البسيطة التي أقرها كانت وانطلق منها.
هذه هي تجربة العظم مع الدراسات الشهيرة
لفلسفة كانت، وتفادياً للغرق في تفاصيل التفاصيل الفاقدة تدريجياً لكل مغزى
وأهمية، كان لابد له من العودة إلى وضع الفلسفة الكانتية في موقعها المناسب داخل
إطار الفلسفة الحديثة، وقد كانت قناعته هي أنها ديكارتية جديدة، تتمثل ثنائيتها في
الذات كما هي في ذاتها من الناحية الأولى، والشيء كما هو في ذاته من الناحية
الثانية.
لقد قيل إن كانت قد أنجز ثورة كوبرنيكية
في الفلسفة والابستمولوجيا، فما رأي العظم في هذا؟ يقول العظم إن كانتْ قد أنجز
ثورة كوبرنيكية مضادة وليس ثورة كوبرنكية فقط، هذا بالقياس إلى تطور العلم في عصره
على أقل تعديل. فاستعمال كانت لفكرة الثورة الكوبرنيكية في وصف إنجازه الفلسفي،
جاء من قبيل المجاز والتشبيه. لقد نسف كوبرنيكوس فكرة دوران الكون حول المركز الذي
يوجد فيه الإنسان ليجعل من الإنسان ومركزه تابعين يدوران حول موضوع خارجي هو
الشمس. أما كانت فقد نسف فكرة دوران الفكر الإنساني حول الموضوعات الخارجية ليجعل
منها توابع تدور في كل مظاهرها القابلة للمعرفة حول الذات الإنسانية وفكرها. إن
اتجاه الثورة الكوبرنيكية الأصلية كان نحو الواقعية في حين إن اتجاه الثورة
الكوبرنيكية الكانتية المزعومة كان نحو المثالية. وعلى ذلك يرى أن ليس في الثورة
الكانتية من الكوبرنيكية إلا الاسم فقط لأن اتجاهها معاكس لاتجاه الثورة الحقيقية
الأولى.
يقول كانت بأنه اضطر إلى إنكار المعرفة
كي يفسح المجال للإيمان، وهذا يعني أنه انطلق من الإشكالية نفسها التي انطلق منها
ديكارت ولكن بصورة معكوسة. لقد كان هم ديكارت - كما يرى العظم - توسيع الحيز
المتاح أمام العقل العلمي الحديث ليمارس دوره بأكبر قدر ممكن من الحرية والفاعلية
والشمول في معرفة العالم المادي في وجه هيمنة أونطولوجيا الإيمان الديني الموروثة
من العصور الوسطى. في حين يجد العظم أن هم كانت الأساسي هو إيجاد مكن ما للإيمان
الديني والفاعلية الروحية في وجه هيمنة المادية الميكانيكية أو الفلسفة الحبيبية،
بخاصة بعد النجاحات التي حققها ميكانيك نيوتن. كانت هو بامتياز الفيلسوف
الميكانيكي المتردد والنادم والتائب. في حين وظف ديكارت الثنائية الاونطولوجية
لخدمة علوم المادة وتوسيع مجالها ومداها وهامش المناورة المتاح لها يومها، فعل
كانت العكس، أي وظف الثنائية بالاتجاه المضاد، باتجاه خدمة مملكة الروح ومتطلباتها
الأخلاقية والايمانية والدينية المفترضة.
يرى العظم أن الفلسفة الألمانية ظلت
لفترة طويلة متخلفة عن الفلسفة الإنجليزية والفرنسية، وليس مصادفة أن يكون
الفيلسوف الذي أيقظ كانت من سباته الفلسفي هو ديفد هيوم وليس أحد المفكرين
الألمان. إن التأثير الفلسفي اللاحق لكانت، بخاصة في ألمانيا، لم يكن على الدوام
إيجابياً، بل كان في كثير من الأحيان سلبياً وحتى رجعياً، وليس الحق في ذلك على
كانت، فقد كان أكثر تقدماً من ألمانيا عصره وأقرب في فكره إلى حركة التقدم
والتحولات الثورية الجارية في فرنسا وإنجلترا منه إلى التأخر السائد في بلده
وقتها.
د. فيصل غازي مجهول
(جريدة الصباح، العدد (405)، السبت 6 تشرين الثاني 2004)