recent
أخبار ساخنة

قرندل ولائحة حقوق الحمار للأستاذ مدني صالح

مقدمة لكتاب الأستاذ مدني صالح

كلَّفني أستاذي الكبير مدني صالح بطباعة هذا الكتاب وترتيبه بعد أن تم جمع المقالات التي نشرها في الصحف. وقد اختار له عنوان "قَرَنْدَل ولائحة حقوق الحمار"، وكتبَ الإهداء (إلى نديم نجيب نعيمه وطاهر حمدي كنعان)، وهذا الإهداء هو نفسه في كتاب "بعد الطوفان".

مدني صالح

وبعد ذلك أرسله إلى بيروت، وبقي الكتاب هناك مدةً طويلة وانقطعت الأخبار وكنا بين حصارٍ وحرب ثم سقوط نظامٍ ومجيء آخر. ومن الذين يعرفون قصة هذا الكتاب – ما عدا المؤلف وأنا – الصديق الدكتور محمد فاضل عباس الذي هو أكثر من عرفتُ إخلاصاً لمدني صالح ومعرفةً بفكره وقدرةً على فهمه وفهم نصوصه وتأويلها. وعلى الرغم من أن الناس أحرارٌ في القراءة والحكم... لكن تبقى هناك درجات ومنازل في الاستيعاب والفهم والخبرة والتأويل وأشياء أخرى تحكمها مواهب وقدرات وإخلاص وصبر في التعلم والتحصيل... ولولا ذلك لاختلط المدعي الكاذب بالنابه الصبور الصادق، واختلط العلم بالخرافة، وتساوى الصادق الجاد المنتمي للثقافة والعلم مع الذي رمته الأقدار في مجال لا ينتمي إليه ولا يصلح له.

في إحدى سفرات محمد فاضل إلى بيروت جلب مسودة الكتاب من دار النشر التي اعتذرت عن نشره لأزمةٍ مرت بها، مع قرص (فلوبي دسك). وشغلتنا مشاغل الحياة والعمل وبقي الكتاب ينتظر النشر. وقد حاولتُ محاولات شخصية ثم محاولات مختصين لفتح الفلوبي دسك فلم يُفتح لخلل فيه... ولكن، لا مشكلةَ ما دامت النسخة الورقية التي طبعتُها سابقاً موجودة. والآن طبعتُه من جديد وراجعتُه مراجعةً أخيرة وكتبتُ له مقدمة قصيرة.

مدني صالح لم يُبتلَ بعقدة الغرب ولم يقلب الدنيا لأنه درس في كيمبردج.. بريطانيا.. ولم يتكئ على مصادفة البعثات الدراسية السعيدة التي لولاها لما بقي لبعض الناس صفةٌ مهمة يتصفون بها. خرج من هيت.. من الرمادي.. من بغداد.. من العراق.. باحثاً جاداً مخلصاً، وعاد كذلك. لم يخرج ضعيفاً ليعود عظيماً! لم يُبهره أنه استطاع أن يقرأ سطراً واحداً بلغة غير لغته، فيُسلط ذلك السطر – إن كان صحيحاً – على رقاب الطلبة والمثقفين والناس كلهم. لم يتأبط كتاباً إنجليزياً غير معروف عربياً، ويأخذ صفحةً منه كل سنة، فتخدمه تلك الصفحات أربعين سنة. لم ينبهر بالجميع من دون تفرقة بين قوي وضعيف، لم ينبهر بجميع المستشرقين، بل ميز بينهم من حيث المكانة والعلم، ولم يخلط فيلسوفاً كبيراً بمستشرق صغير، واشتد على الضعفاء الذين لا يستحقون كثيراً.

ذهب إلى أوربا، أوربا التي تزيدُ ما فيك لا تُبدله، أوربا كالخمر تزيدُ الحكيمَ حكمةً والسفيهَ سفاهةً، تزيد المثقف ثقافةً والمنغلقَ انغلاقاً، لا تخلق من عدمٍ بل تسقي وتنمي بذرةً فيك، توفر لك ما لا تجده في بلدك من أدوات البحث والمصادر، تطورك تفتح لك المجال واسعاً إن كنتَ من الساعين إلى التعلم والتطور والتمدن والتحضر والإتقان. ذهب مدني صالح وعاد.. حاملاً ثقافة عربية وإنجليزية رصينة، عاد من الغرب بثقافة وفلسفة وخبرة عاشقاً للجمال للفن للمسرح للأوبرا.. والعائدون من مدن الثقافة والعلم والجمال أشكال وأصناف، منهم صنف الكبار الصادقين المخلصين النابهين المتواضعين الذين تعلموا وتفوقوا ونفعوا وعَلَّموا وأسهموا في التقدم والرقي. ومنهم صنف الذين عادوا من تلك العواصم والمدن وتحسب أنهم قد جاؤوا من أسوأ قرية في أسوأ دولة في أسوأ زمن... ذهبوا بعقدة نفسية واحدة وعادوا بعُقدٍ، ذهبوا بلغة عربية متوسطة ثم أضاعوا اللغتين، ذهبوا متخلفين فعادوا منغلقين متعصبين... وأضف إليها غروراً وحقداً وأشياء أخرى...

يقول مدني صالح "لو عدت لما بدلتُ ولبقيتُ على الحال التي أنا فيها لا أبدل شيئاً من أمر شرف الوقوف مع الضعفاء ومع الفقراء حتى يستغنوا، ومع المظلومين حتى ينصفوا، ومع الصعاليك الفقراء الفرسان المتصوفة العناترة الفراهدة العشاق المعاميد مهما يفعلون... ولبقيت – لو عدت – أكبر المتضررين بالذين لا كعابَ لهم في الثقافة ولا هم يلعبون، ولا مناجلَ لهم في الأدب ولا هم يحصدون، ويجعجعون ولا يطحنون... ولبقيت على الحال التي أنا فيها متضرراً أشد الضرر في الساحة الثقافية بذوي المواهب الصغيرة والدرجات الدنيا في الثقافة وفي الأدب:- لا أنا قادر على النفاق فأدرأ بالنفاق عن نفسي الأذى، ولا الله – وهو حسبنا جميعاً – يرزق الخصوم موهبة فأحمده عليها قبلهم فأدرأ عن نفسي الضرر".

ومنهم أولئك الكارهون للفلسفة والعلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية والفنون الجميلة غير المنتمين إليها بأي شكلٍ من الأشكال، اللاعنون لليوم الذي دخلوا فيه هذه المجالات. ومنهم أولئك الذين لا يشغلون أنفسهم بشيء إلا الحقد والحسد لمحبي الفلسفة ومحبي العلوم ومحبي الفنون ومحبي الثقافة عموماً ومحبي العمل المنتج والناس والحياة... وللناجحين النابهين المهتمين المتفوقين... ثم يحكمون عليهم حكمَ مَن تعلم كلمةً فظن أنه قد أصبح ناقداً، يُبدون إعجابهم قولاً وكتابةً بأتفه التافهين مراتٍ ومرات... وهم لا غيرهم يقولون إنهم تافهون، ثم يُبدون رأياً بالكبار، ولا يرد الكبار إلا صمتاً، فالصمت أبلغ من الكلام أحياناً.

متضررٌ هو كما تضرر أمثالُه قديماً وحديثاً.. متضررٌ من أولئك الذين لا تدري أحظُّهُم أم حظُّنا أم حظُّ الفلسفة قد رماهم في أمكنةٍ لا تُحبهم ولا يُحبونها؟ لكنه لوح أقدار الانسيابية والثقوب الكبيرة لغربال التربية والتعليم والعرض والطلب، إلا مَن نجا منهم بصفاتٍ وفضائل موروثة، أو مَن تفاءل وسبح مع الأقدار واكتشف ما لم يعرفه من قبل وتحدى واجتهد وعرف قدرَ نفسه وقدرَ غيره ونجح وكبر واحتُرم.

إن الأدب الفلسفي عند مدني صالح أفعل من الفلسفة، والفلسفة المؤدبة أفعل من الأدب، لذا جاءت معظم كتاباته بهذا الأسلوب. وقد كتب بأساليب عدة منها البحث والدراسة والمقالة والمقامة والقصيدة والمحاورة والعمود الصحفي وغيرها... كأنك تقرأ لمدني صالح قصيدةً فلسفية من آلاف الأبيات لم يُسمِّها قصيدة ولم يكُ مهتماً بأن يُسمى شاعراً، وتشهد تفلسفاً ولم يكن يعنيه أن يُسمى فيلسوفاً، تلك القصيدة التي تَفَجَّرُ فكراً كلما تقدم العمر وازدادت الخبرة وخيبة الأمل.

كان يختار شخصيات تُجسد المغلوب الخاسر الفقير التابع الذي عبَّر عنه مرةً بِقَرَندل ومرةً بفرايدي، وشخصيات تجسد الغالب المنتصر الغني... كالقارون الأغنى الأقوى الأسعد، وروبنصن كروزو عامر الرأس بالحكمة ومناهج العلم وعامر الصدر بالإيمان وعامر الجيب بالذهب وعامر البندقية بالبارود. ويعطي صوراً لتفوق كروزو على فرايدي. ونمت تلك الشخصيات أكثر في كتابه "بعد الطوفان" ووظفها في تحليلات سياسية واقتصادية وثقافية متعددة، فكانت ملحمة الصراع بين سيد منتصر وعبد مهزوم، وكل ذلك يدور على محور الحرب التجارة الاحتكار.

جاء في المثل الشعبي العراقي "عند دَك الكبَّة صِيحوا قرندل، عند أكل الكبة نايم قرندل" وهذا المثل والكلام للشيخ الحنفي "يُضرب لمن يتحمل المغارم دون المغانم.. وقرندل هذا كان مولى لقوم فكانوا إذا أرادوا صنع الكبة وهي طعام معروف أيقظوه من نومه ليهرس البرغل أو التمن بالمهراس تمهيداً لصنع الكبة وهو عمل يتطلب جهداً غير هين. فإذا أنضجوا الكبة بعدئذ وكان قرندل نائماً نهوا عن إيقاظه". قرندل؛ إنه المعذب المضحي نيابةً عن الجميع، قرندل الذي يدق الكبة ولا يأكل، يلطم ولا يأكل، يزرع ولا يحصد. وكثيرٌ من الشخصيات الشعبية تُشبه قرندل، وكما يُقال في المثل الشعبي العراقي "لطم شمهودة" التي تلطم مع الكبار وتأكل مع الصغار، وفي كل زمان ومكان شخصيات تُجسد هذه الفكرة. قرندل الذي "يلطم في جميع مواكب العزاء راشداً مع الراشدين ويطردونه طفلاً قاصراً ولا يقبلونه على المائدة مع الكبار الراشدين إذا حضرت القصعة". وأصحاب هذا الصنف القرندلي عمالاً وفلاحين وجنوداً وأساتذة ومثقفين وعلماء... يلطمون مع الكبار، ويأكلون مع الصغار... هؤلاء الذين يجعلون "الثقافة والحضارة والمدنية ممكنة بالاختراع وبالاكتشاف وبالابتكار في العلوم وفي الآداب وفي الفنون"، لكنهم لا يتنعمون، يتعبون في الاكتشاف والاختراع والسيطرة على الطبيعة وهم عبيد في خدمة التاجر والإقطاعي والمرابي والمليونير.

ويكتب عن حقوق الحمار.. الحمار الصابر الوفي، وإنْ هي إلا صفاتٌ للحمار للإنسان لكل صابر مخلص وفيٍّ كريم... ذلك الذي يعيش آلام الذل والاستغلال، "ومن أول أسباب حسن الإدارة أن يكون أول اهتمامك بقوى الإنتاج في المؤسسة وتهيئة أسباب الراحة للعاملين الذين منهم هذا الباسل الحكيم الصابر الذي يرضى منك بالقشور ويشكر لك عليها النعمة حتى حين هو أحق منك باللب وحتى حين تكون أنت أولى منه بالقشور".

يتكلم ويكتب عن أشخاص يعيشون في "عالم ليس فيه إلا الفقراء يخدمون الأغنياء في السلم ويدافعون عنهم في الحرب"، عالم فيه "نفطيون يخدمون الذريين في السلم ويتقاتلون نيابةً عنهم حماية لاحتكاراتهم في الحرب". يتكلم عن حرية المفاليس الخائبين "وماذا على الحكومة من حرية يمارسها مفاليس خائبون كلاماً في هواء وهواء في كلام وعند الحكومة تحت اليد وبرسم الخدمة رهن الإشارة عند الطلب برلمان ونواب وشيوخ وأعيان وشرطة وجيوش وإلخ... وإلخ... وبيوت علم وأدب وفن وعبادة إلخ إلخ. وبيت المال الذي هو – بعد بيت الله – أعز البيوت". ويتكلم عن مصاطب الحريات الديمقراطية في هايد بارك لندن وفي كل مكان، عن أولئك الذين "يمارسون الحماس والحرية والأمانة والإخلاص في الرأي وإبداء الآراء في مسائل لم يجعلها الله إلا بيد أصحاب حق الفيتو فإنهم أصحاب العضوية الدائمة في التاريخ وفي الحياة الذين لو شاء الواحد منهم لاشترى بعشر معشار ملياراته المصاطب والمنابر والخطباء كلهم والمستمعين والمتحاورين (والهايد بارك) كلها ورأس الثور المجنح من المتحف البريطاني وحقوق النشر من جريدة التايمس وحقوق الفيتو من مجلس الأمن كلما شاء".

مدني صالح ثائرٌ والثورةُ ليست تهريجاً، متمردٌ والتمرد ليس صراخاً، في صمته موقف أقوى من الكلام، كلام أولئك المسهمين في الخراب. مدني صالح كما قال حربٌ دائمةٌ على القبح في نصرة الجمال، وعلى الظلم في نصرة العدل، وعلى الخطأ في نصرة الصواب، وعلى الخرافة في نصرة العلم والفلسفة والفن والأدب، صديق للنابهين العباقرة العشاق الفقراء.. يخاف على الفيلسوف من التاجر ويخاف على القانون من المليونير، وعلى الباليه والأوبرا وبيتهوفن من الجوبية والأبوذية والطبالين، وعلى التقدم والارتقاء من التخلف والهبوط. لا يقبل للآسيو أفارقة أن يكونوا أقل بابليةً وفرعونية من الأورو أميريكيين في الفنون وفي العلوم وفي الآداب.

(صحيفة المثقف، العدد (4587) في 28/03/2019)

author-img
فيصل غازي مجهول

تعليقات

google-playkhamsatmostaqltradent