وُلدت رابعة العدوية في مدينة البصرة، تلك المدينة التي جمعت بين الأضداد؛ جد ولهو، زهد وترف، نهر وبحر، بدو وحضر. وقد اختلط الكل بالكل فأنتج ألواناً من الأفكار ما يزال كثيرٌ منها مؤثراً فينا إلى يومنا هذا.
يكتنف حياة رابعة العدوية غموض كثير من
ناحية الأسرة والنسب والولادة والوفاة. فقد يكون أبوها فارسياً أو عربياً، ولا
يُعرف متى أسلم وعلى أية ديانة كان قبل إسلامه؟ قد يكون مسيحياً ثم أسلم، وقد تكون
هي نفسها قد أسلمت بعد الرق. وقد اختلط اسمها باسم "رابعة" أخرى. وكانت
وفاتها على وجه التقريب في سنة 180هـ، أو 801م، وفي ذلك خلاف بين الباحثين. وكل هذه
المسائل بحاجة إلى تدقيق يجد القارئ كثيراً منه في كتاب بدوي "شهيدة العشق
الإلهي رابعة العدوية" الذي اعتمدته. لكن ما يهمنا منها الآن أنها تُعد من الجيل
الأول من المتصوفة المسلمين، وكانت من أوائل القائلين بالحب الإلهي.
نشأت رابعة في بيت فقير جداً، وقضت
حياتها في كوخ بسيط ليس فيه إلا الحب والكوز. ويروى أنها امتهنت العزف على الناي
بعدما تحررت من عبوديتها، فقد انقادت في فترة من حياتها إلى الشهوة والإثم. كانت
لها روح فنية، وكانت على درجة من الجمال، وقد رغب في الاقتران بها كثير من الرجال.
لكنها بعد كل ذلك التطرف قد تابت، فقد أحست أن الحرية التي نشدتها ليست في
الانطلاق بين ملاذ الدنيا، فهذه عبودية لعلها أعنف وأشد إرهاقاً من تلك التي كانت
فيها، فراحت تتلمس سبيل الخلاص نحو الحرية المنشودة، الحرية الحقيقية التي تخرجها
نهائياً عن رق الكائنات.
ولدت رابعة في أسرة فقيرة كانت تدين
بالولاء لآل عتيك من بني قيس، ويقول العطار إنها لما كبرت وتوفي والدها وهي لا
تزال في ريعان الصبا حدث في البصرة قحط، فتفرقت وأخواتها الثلاث يهمنَ على وجوههن.
فرآها ظالمٌ أسَرَها وباعَها بستة دراهم لرجلٍ أثقل عليها العمل. وهنا يذكر العطار
كيف هبطت عليها رسالتها الروحية: "إنها كانت تسير ذات يوم فشاهدت رجلاً
غريباً ظلّ يرمقُها بنظره مضمراً لها الشر، فهربت... ثم ارتمت على التراب وظلت
تناجي ربها: "إلهي! أنا غريبة يتيمة، أرسف في قيود الرق، لكن غمي الكبير هو
أن أعرف: أراضٍ أنت عني أم غير راضٍ؟" فسمعت صوتاً يقول: "لا تحزني! ففي
يوم الحساب يتطلع المقربون في السماء إليك ويحسدونك على ما ستكونين فيه".
فلما سمعت هذا الصوت عادت إلى بيت سيدها، وصارت تصوم وتخدُم سيدها وتصلي لربها
متهجدة طَوال الليل".
نُسبت لها كرامات عدة، كما تُنسب لكثير
من الأولياء والمتصوفة، لكني الآن لستُ بصدد تحليل فكرة الكرامة أو المعجزة. وقد
لجأ الرواة إلى الخوارق في تفسير ما حدث لها: فقد زُعم "أن سيدها استيقظ ذات
ليلة، ونظر من خَوخَةٍ أو خصاص في الباب، فرأى رابعة ساجدةً تصلي وتقول:
"إلهي! أنتَ تعلم أن قلبي يتمنى طاعتك، ونورَ عيني في خدمة عتبتك؛ ولو كان
الأمر بيدي لما انقطعت لحظة عن خدمتك، لكنك تركتني تحت رحمة هذا المخلوق القاسي من
عَبَدتك". وخلال دعائها وصلاتها شاهدَ قنديلاً فوق رأسها لم يُعلق بشيء، وله
ضياء يملأ البيت كله. فلما أبصر هذا النور العجيب فزع ونهض من مكانه وظل ساهداً
مفكراً حتى طلع النهار. هنالك دعا رابعة وقال: "أي رابعة! وهبتك الحرية. فإن
شئتِ بقيتِ هنا ونحن جميعاً في خدمتك؛ وإن شئت رَحَلتِ أنى رغبتِ!" ما أجملها
فرصة إذن بالنسبة إلى رابعة! فما كان منها إلا أن ودعته وارتحلت، ثم انقطعت
للعبادة والتقوى".
كانت لا تثق في قدرتها على الظفر
بالتوبة لمجرد استغفارها وإقلاعها عن ذنوبها، بل كان لابد لها من رضا الله، فهو
وحده الذي يتوب على الناس المخطئين، فتوبة رابعة لم تتم دفعة واحدة، بل كانت طوال
حياتها في توبة مستمرة؛ إن حياتها كلها كانت توبة متصلة.
قيل إن فكرة الحب الإلهي قد ظهرت في
البصرة قبل غيرها من المدن، وقد قال أحد المتصوفة: "أحببتُ الله حباً سهَّل
عليَّ كل مصيبة ورضَّاني بكل قضية؛ فما أبالي مع حبي إياه ما أصبحت عليه". ويبدو
أن أحداً لم يتكلم في الحب الإلهي قبل رابعة، وأنها أول من أدخل هذا المعنى في
التصوف الإسلامي. قالت: "ما عبدتُه خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته فأكون
كالأجير السوء، عبدتُ حباً له وشوقاً إليه" (وإن كان هذا القول قد نُسب إلى
بعض الأئمة أيضاً). وحُكي عنها أنها "كانت إذا صلت العشاء قامت على سطح لها
وشدت عليها دِرعَها وخمارها ثم قالت: "إلهي! أنارت النجومُ، ونامت العيون،
وغَلّقت الملوك أبوابها، وخلا كلُّ حبيب بحبيبه، وهذا مُقامي بين يديك!" – ثم
تُقبِل على صلاتها؛ فإذا كان وقت السحر وطلع الفجر قالت: "إلهي! هذا الليل قد
أدبر؛ وهذا النهار قد أسفر؛ فليت شعري! أقبِلتَ مني ليلتي فأهنأ، أم رددتها عليَّ
فأَعزى؟ فَوَعِزَّتك هذا دأبي ما أحييتني وأَعَنتَني. وعِزتك لو طردتَني عن بابك
ما برحتُ عنه لما وقع في قلبي من محبتك".
كانت تشتد على نفسها في الصلاة، كانت
تصلي الليل كله، فإذا طلع الفجر، هجعت في مُصلاها هجعة خفيفة حتى يسفر الفجر. كانت
تقول إذا وثبت من مرقدها وهي فزعة: يا نفس! كم تنامين! وإلى كم تقومين! يوشك أن
تنامي نومة لا تقومين منها إلا لصرخة يوم النشور. "وكان قيامها الليل إما
مفردة وحيدة أو مع أصحابها وصواحبها. أما أصحابها فمن بينهم سفيان الثوري فيما
رواه العطار: "قال سفيان الثوري: كنت عند رابعة ذات ليلة. فصلَّت حتى مطلع
الفجر؛ وصليت أنا كذلك. وفي الصبح قالت: علينا أن نصوم اليوم شكراً على هذه
الصلوات التي أقمناها الليلة".
يروى عن الحسن البصري أنه قال: "بقيت
يوماً وليلة عند رابعة نتحدث عن الطريق وأسرار الحق بحرارة بلغت حداً نسينا معه
أنني رجل وأنها امرأة. فلما فرغنا من الحديث شعرتُ بأنني لم أكن إلا فقيراً، بينما
هي كانت غنية بالإخلاص". قد لا تكون هناك صلة حقيقية بين الحسن البصري ورابعة
العدوية من الناحية التاريخية، لكن القصد من هذه الروايات تمجيد الشخصيتين معاً.
كانت تتذكر الموت باستمرار، فتضع
أكفانها أمامها وتتأملها على الدوام فتتعظ بجميع المعاني التي تتضمنها فكرته. وكانوا
يجدون محل سجودها كالماء المتنقع من كثرة البكاء.
أخذت رابعة تجرد الكعبة عن مادتها
وتبقي على معناها، فرُوي أن رابعة كانت بسبيل الحج فرأت الكعبة قادمة نحوها عبر
الصحراء، فقالت: "لا أريد الكعبة، بل رب الكعبة، أما الكعبة فماذا أفعل بها؟!
ولم تشأ أن تنظر إليها. وقد لعبت هذه الفكر دوراً مهماً في مذهب الحلاج فيما بعد،
وكانت من بين أسباب تكفيره وصلبه، ذلك أن الحلاج بعد أن حج للمرة الثالثة والأخيرة
اعتقد "أن شوقنا إلى الله يجب أن يمحو عقلياً في نفوسنا صورة الكعبة كيما نجد
"مَن" أقامها، وأن نحطم معبد بدننا كيما نبلغ "مَن" جاء إليه
ليتحدث إلى بني الإنسان". "فها هي ذي رابعة قد امَّحت في نفسها صورةُ
الكعبة لأنها تريد أن تجد من أقامها. وبهذا تطور المعنى الحسي للحج فأصبح مجرد
مناسبة لرؤية الله، بل صار في وسعها أن تستغني نهائياً عن هذه الفريضة لأنها ستجد
الله في نفسها، فما حاجتها بعدُ إلى مشاهدته عند الكعبة! وهذا كله كانت تواكبه
عمليةُ التنزيه المستمر والتجريد المتصل في فهمها لسائر معاني الحياة الروحية".
لقد نذرت رابعة نفسها لله، فالزواج الحق
هو زواج الحب، وحبيبها الوحيد هو الله، فإذا كان لها أن تقترن بأحد، فلن تستطيع
الاقتران بغير الله. وقيل إن الحسن البصري كان أول من دعا إلى العزوبة صراحةً
وجعلها شرطاً من شروط التقوى والزهادة الحقة.
إن أشهر ما نُسب إليها في الحب الإلهي
الأبيات الآتية:
أحبكَ حُبينِ: حب الهوى وحباً لأنك أهلٌ لذاكا
فأما الذي هو حبُّ الهوى فشُغلي بذكرِك عَمَّن سواكا
وأما الذي أنتَ أهلٌ له فكشفُك للحُجبِ حتى أراكا
فلا الحمدُ في ذا، ولا ذاك لي ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
سُئلت رابعة: لماذا تنوحين وما الألمُ
الذي تشكينَ منه؟ فأجابت: واحسرتاه! العلة التي أشكوها ليست مما يستطيع الطبيب
علاجه. إنما دواؤها الوحيد رؤية الله. وما يعينني على احتمال هذه العلة إلا رجائي
أن أحقق غايتي هاتيك في العالم الآخر.
وكانت تَعُدُّ النظرَ بقلبِها إلى الجنة إثماً يعاقبها الله عليه، فقررت أن لا تعود إليه. وقد تعاتِب الله نفسه على الرهبة والرغبة، إذ قالت: "أما كان لك عقوبة ولا أدبٌ غير النار؟". "إلهي! إن كنتُ عبدتك خوف النار فأحرقني بالنار، أو طمعاً بالجنة فحرِّمها عليّ. وإن كنت لا أعبدك إلا من أجلك، فلا تحرمني من مشاهدة وجهك". "إلهي! كل ما قدرته لي من خير في هذه الدنيا أعطِه لأعدائك، وكل ما قدرته لي في الجنة امنحه لأصدقائك، لأني لا أسعى إلا إليك أنت وحدك".
فيصل مجهول
(نجم المشرق، العدد (61) السنة السادسة عشرة (1) 2010).