أسئلة: هل يُمنع الطعامُ لأن بعضَ الناس شرهون يصابون بالتخمة؟ هل تُحرق المزروعات لأن بعض النباتات سمٌّ للأبدان؟ هل تُمنع الصحافةُ لأن كثيراً من الصحف تنشر أخباراً كاذبة وتشوه الحقائق؟ هل تُغلق السينمات لأن بعض الأفلام يُفسد الأخلاق؟ هل تُمنع صناعة السيارات لأنها تسبب الحوادث وتلوث البيئة؟ هل تُغلق دورُ العبادة لأن بعض رجال الدين استغلوا الدين لأذى الناس والسيطرة عليهم؟
إن لكل نوع من أنواع المنع تاريخاً طويلاً وأسباباً عدة، وإني سأترك كثيراً منها وآخذ واحداً من أنواع المنع وهو منع قراءة الكتب.
لابد أن تكون هناك أسباب جعلت المؤسسات والسلطات تفكر في منع تداول كتاب معين. وإذا مُنع كتابٌ واحدٌ بعذرٍ مقبولٍ وهو أنه يُفسد العقولَ أو يحرضُ على الجريمة، فإن ألفَ كتابٍ غيره قد مُنع لهذا السبب نفسه ولم يكن كذلك. وإن كان لابد من المنع لسببٍ ما أليس من الأفضل أن يكون هذا الإجراءُ الأخيرَ لا الأول؟ فللمنع أهداف كثيرة، وخيرُ الأهدافِ أن يُمنعَ الكتابُ الذي يحرضُ على قتلٍ أو إساءةٍ كبيرة لمن لا يستطيعون الدفاعَ عن أنفسهم.
قديماً، وحديثاً أيضاً، كان يصدر أمر
بمنع الكتاب، ثم تجمع النسخ وتُحرق. وفي أحسن الأحوال لا يُحرق صاحبُ الكتابِ معها
أو قبلها. وقد تبقى منه نسخٌ قليلة يُطارد أصحابُها، وكم من شخص قد تعرض للقتل أو
للسجن لأن لديه نسخةً من كتاب ممنوع، أو حتى ورقة من ذلك الكتاب. في الماضي كان
عدد النسخ قليلاً ومن الممكن جداً أن لا يبقى أثرٌ للكتاب الممنوع، وإذا بقي مَن
يتذكر ويحفظ فقراتٍ من ذلك الكتاب ويتكلم بها هنا وهناك فتوجدُ طريقةٌ أخرى بسيطةٌ
ومُجربةٌ، هي أن يُقطعَ ذلك الرأسُ الذي يحفظ تلك الفقرات. ولسوءِ حظِ الجهاتِ
القمعيةِ تنتقلُ الأفكارُ من رأسٍ إلى رأس آخر، ومتابعةُ الرؤوسِ وقطعُها من مكانٍ
إلى مكانٍ ليس متيسراً باستمرار، فما يُقمع في مكان يظهر في مكان آخر، والفكرُ
رحالةٌ يحبُ المجازفةَ، يستمتعُ بالسفر ويزداد قوةً بالتنقل.
الكتب والإساءة إلى الدين
مُنعت كثيرٌ من الكتب وأحرقت لأنها تُسيء للدين، لكن، أيُّ دينٍ بالضبط هذا الذي أساءت إليه؟ إنه الدين الذي اتفقت جماعةٌ من الناس على أنه الصحيحُ وما عداه خاطئ. ليست المسألةُ هنا وجهاتِ نظرٍ مقبولة، بل تُقبل وجهةُ نظر واحدة وعلى البقية أن تعترف بخطئها. يجب أن تقول إنها مخطئة ولو لم تكن مخطئة. هنا يكون الفصلُ في الأمرِ للسيف لا للقلم. يقول كثيرٌ من الناسِ أن لديهم قدرةً على المناقشةِ والمناظرة والإقناع، ثم يتبين أنهم لا يمتلكون إلا قوة السيف فهي عندهم طريقةٌ مثلى لتصفية النقاش، كما قال المعري:
تلوا باطلاً وجلوا صارماً وقالوا صدقنا فقلتم نعم
إنها جماعة احتكرت التفسير والتأويل
والشرح والإيجاز ومنعت الآخرين من هذا كله، جماعة قالت إننا نحن أحباب الله
وغيرُنا أعداؤه، تكلموا نيابةً عن الله لأنهم الورثة الوحيدون له.
عمق الدين
إن الدين - وكذلك العلم والفن - أكبر من
أن يهدده كتابٌ أو مقال أو بيت شعر. فما الذي حدث عندما حاربت الدينَ دولٌ
بأكملِها؟ وما الذي حدث عندما حاربَ الدينُ أنشطةً فكريةً وعلماء؟
لقد ازداد عدد المتدينين في الدول التي حاربت الدين، وازدادت رغبة العلماء في
البحث في مسائل كانوا ممنوعين منها في زمن الهيمنة الدينية. وليس للعبة المنع
نهاية، كما جُربت قديماً وحديثاً. فحتى لو سُمحَ بنشر الكتب الدينية فقط وأُلغيَ
ما عداها فلن ينتهي المنع، ستُمنع كتبٌ لأنها تثير الطائفية وأخرى لأنها تطعن ببعض
الشخصيات الدينية التاريخية المهمة، ثم تمنع لأن كاتبها قد انحرف وقام بإفساد
الشباب، ولا أدري أي شاب هذا الذي يُمنع عنه كلُّ شيءٍ وما يزال في نظرهم
منحرفاً؟!
استغلال المنع
اكتشفت بعض الجهات أن هناك رغبةً عند
الناس في قراءة الكتاب الممنوع على وفق المثل "كلُّ ممنوعٍ مرغوب"
فبادروا إلى إحداث ضجة حول بعض الكتب كي تُمنع فتنتشر بين الناس أكثر، فأشاعوا
فكراً بترويج منعه، وكل شيء يُستعمل لترويج البضاعة. وهذه مسألة مهمة، فقد أصدر
بعض رجال الدين فتاوى تحرم قراءة كتاب معين أو تدعو لقتل صاحبه أو تعاقب من يقوم
بترجمته إذا كان مكتوباً بلغة أخرى. فإذا استطاع امرؤ أن يقرأ ذلك الكتاب ولم يرَ
فيه خطراً كبيراً ولا رأياً مهماً ولا جديداً غير معروف قال لِمَ كلُّ هذه الضجة؟
فما قال المؤلف أكثر مما قيل قديماً.
دفع الأجور
عادةً ما تُلصق بكل كاتب مؤثرٍ تهمةُ
العمالةِ والتخريب، فيُقال لَم يكتبْ ما كتبَ إلا بعد أن دفعت له المخابراتُ ثمنَ
تخريبه. ولك أن تتهم جميع أجهزة المخابرات في العالم وأضف إليها الماسونية وغيرها
من الأسماء. وإن كان في هذا القول شيءٌ من الحق فإن أكثره يجانب الحق. فكثير من
نقاد الدين – أو الملاحدة إن شئتَ أن تسميهم بهذا الاسم الذي لا يحبونه
– قد نشؤوا في بيئة دينية أو درسوا دراسة دينية، ثم انقلبوا على بيئتهم أو دراستهم
لا لشيء إلا لأن البحث قد أدى بهم إلى هذا الرأي. وكل من خرج من دينٍ إلى دين أو
من طائفة إلى أخرى كان شديدَ النقد لأنه أمام تحدٍّ كبير. ثم يشرع المحافظون بلعن
هذا الشخص ولهم عذرُهم في ذلك، إذ بينما تبحث الأديان عمن يناصرها من أبنائها،
والطوائف عمن يقف بجانبها، لاسيما في وقت الأزمات، ينقلب هؤلاء عليها. وإنه لأيسر
عليهم أن يقبلوا نقداً خارجياً قوياً من أن يقبلوا نقداً داخلياً.
الوقوف ضد الدين
إن الوقوف ضد الدين أشكال وأنواع، فمن
المفكرين مَن اكتفى برفضه بجملٍ قصيرة، ومنهم من أطال وأسهب. وليست الدوافع واحدة
فقد يكون الموقف ضد الدين أو ضد رجال الدين أو ضد طقوس الدين أو حباً بالشهرة أو
مشاكسة أو انفعالاً عابراً.
يقول هواةُ المنع إننا لا نخاف على
الدين، ثم تراهم يمنعون مئات الكتب. لكن، هل مات دينٌ من الأديان بسبب نشر كتاب
ضده؟ وهل ضعفت المسيحية في أوربا بعد كل تلك الكتب التي نقدت الدين؟ لن يُلغي
المسيحيةَ، وغيرها، ألفُ كتابٍ أُلفَ ضدها. ولن يترك الوثنيةَ معتنقوها الذين هم
أكثر من نصف العالم لأن هناك كتباً تنقدها ولا تعترف بها. ولن تقنعَ مئاتُ الكتبِ
التي أُلِّفت في الدين ملحداً حقيقياً واحداً أن يصبح مؤمناً؛ ذلك أن الأسباب أعمق
وأكبر وأعظم من كتاب أو كتابين. فأين تضع الحب والخوف والرجاء والأمل والإحساس
والطموح والاعتياد؟
شخصية القارئ
يظن المانعون للكتب أن الإنسان ممسوخ
الشخصية تماماً، فإذا قرأ كتاباً ضد دينه انقلب عليه. ويشيع بين الناس أنك إذا
قرأتَ كتاباً معيناً تغيرت فكرتُك عن هذا الشيء، ثم تقرأ الكتاب فلا يغير فيك
شيئاً، إذ ليس الكتابُ عصا ساحرٍ يفعل الأعاجيب بمجرد قراءته. إننا نقرأ كتاباً
واحداً مراتٍ ومرات ونفهم منه في كل مرة أمراً لم يكن مفهوماً عندنا من قبل، فبعض
الكتب يحرك الذهن ويدعو إلى التفكير في كل قراءة. لا يغير الكتاب شيئاً ما لم يكن
عند القارئ استعداد للتغير ورغبة فيه.
د. فيصل مجهول
(نجم المشرق، العدد (52)، السنة الثالثة عشرة (4) 2007).