إننا لا نتكلم عن دعاة السلم ما لم نستحضر دعاة الحرب، فالحرب والسلم ضدان، ولا معنى للضد من دون ضده. وبما أنه لا معنى للكلام عن البارد من دون الحار فلا معنى للكلام عن السلم من دون الحرب. إن الحرب قائمة باستمرار بين قبائل أو ديانات أو دول أو مؤسسات... وربما لم يمر عقدٌ من الزمان بلا حرب في مكان ما. كأننا في حرب بدأت مع بدء التاريخ ولمَّا تنتهِ بعد، وكأن السلم هدنة بين الحروب. لذا فإن الداعين إلى الحرب لا يقلون قوةً وعدداً عن الداعين إلى السلم. ودعاةُ السلم كدعاة الحرب نواياهم متعددة، أساليبهم مختلفة.
تبرير الحرب
كلما ضاقت الدائرة اشتدت الحرب، فليست
الحربُ بين الأديان المتباعدة بأشد من الحرب بين الأديان المتقاربة.
فهي أشد
داخل الدين الواحد، أعني حرب الطوائف. وتحتاج الحرب في الداخل إلى تبرير أقوى لشنها،
لأن المشترَك الذي يشتركون فيه أكبر وأكثر، تحتاج إلى قوةِ عقلٍ
واستنتاج وإقناع كي تكون مقبولة.
كأن يُقال هؤلاء ليسوا منا أو خرجوا عنا، وهم إلى أعدائنا أقرب بل هم إليهم ينتمون.
ولن يعجز راعي الإبل من الإتيان بألف دليل على أنه أرقى من راعي البقر، أو أن يأتي زارع الحنطة بألف دليل على أنه أفضل من زارع الخضروات.
ثم يُطلب من المفكرين، بشربةٍ من حليب ناقة ونصف رغيف يابس، أن يعززوا هذه الفكرة،
فيبدؤون بجمع الأدلة العقلية والنقلية لتعزيزها ويجعلون الأرض والسماء مؤيدةً لها،
وتصبح بعد حين حقيقةً من الحقائق يؤمن بها الناس إيماناً مطلقاً ويحاربون من أجلها.
وكلٌّ يربط حربَه بهدفٍ سامٍ نبيل. ففي بيئة دينية لا يُمكن أن تُشن حربٌ تحت شعار
المصلحة، بل تحت شعار نصرة الدين والحق وإرضاء الإله.
عندما تنقطع سُبل الحديث
يلجأ الناس في بعض الأحيان إلى
القتال اضطراراً، لأن المقابل لا يُريد إلا قتالاً، فإذا جاء هذا المقابل ونيتُه
أن يقتل شخصاً،
فماذا يقول له؟ انتظر كي أناقشك وأثبتَ لك أن قتلي ليس شرعياً ولا قانونياً ولا مفيداً؟
أو أمهلني
قليلاً حتى أُحضرَ
من يدافع عني لتكون
مهمةُ
قتلي صعبةً
عليك؟
إن مَن
جاء قاتلاً نادراً ما يرجع عن قراره. قد تنتشر بعضُ
القصص أو الحكايات
التي تحاول أن تخفف من المسألة، عن قَتَلَةٍ
ندموا في اللحظة الأخيرة فلم
يَقتِلوا،
صحوةُ
ضميرٍ
قبلَ
ارتكابِ
الخطأ. لكنها حالاتٌ
قليلة إذا ما قارنتها بالكثيرة. هي ممتعةٌ فنياً مثيرةٌ عاطفياً لأنها تُنقذ
بطلاً لا نتمنى أن يُقتل أو تُعلي من شأن بطل نحبه، وفيها أمنية عامة بأن يُفكر
الشخصُ
ألفَ مرةٍ
قبل أن يُقدمَ على عمل مشين. ما
فائدةُ
أن تدعو شخصاً للسلم
وهو لا يريد؟
لكن إذا كانت لدى الداعي قدرة على
الفعل ورغبة عن الحرب
فإن دعواه قد
تُقبل.
الاشتياق إلى الحرب
عادةً ما لا يعتبر الإنسان من التاريخ في كل شيء يخص الإحساس والشعور، لسببٍ قد يبدو بسيطاً وهو أن كثيراً من
الأمور بحاجة إلى خبرة وتجربة شخصية. فمن أحبَّ بصدقٍ أحسَّ بقصائد قيس وشَعَرَ بقصة
روميو وجوليت. ولو
اعتبر الناس لما
كانت حرب ولا قتل ولا سرقة ولا تدمير… إن إدراك مثل هذه المسائل ليس أمراً سهلاً،
وإذا تحقق عند بعض الأفراد فهو غير متحقق عند الجماعات. قد يدعو شخص إلى السلم في
جماعة لا تدعو إلا إلى الحرب، وإذا كانت الرغبةُ في الحرب قويةً أُهملَ
هذا الشخص وما دعا
إليه.
ربما تذكروه بعد أجيال وقالوا إنه كان
عاقلاً ولم يستمع إليه من كان حوله، ولو كُنا معه لاستمعنا إليه.
عندما تنعم مجموعة بالسلام قد تشتاق
إلى الحرب، فإنْ ذَكَرَ التاريخُ
مرةً مصائبَ
الحروب ذَكرَ ألفَ مرةٍ أمجادَها
وبطولاتها وقادتها العظام والزهو والفخر المصاحب لها. كل هذا يجعل مَن
لم يرَ
حرباً مشتاقاً لرؤيتها تواقاً لخوضها. تمنى كثيرٌ من الذين ينعمون بالسلام أن
تعودَ أيام الحرب ليكونوا قادةً أو فرسان في جيش الاسكندر أو خالد بن الوليد أو
نابليون أو هتلر.
إنه خيال، والخيال يجعل الشخص يمشي فوق النار ولا يحترق، ويطير في
الهواء ولا يسقط، ويحارب وينتصر ويُصفق
له الرجال وتعانقه الفتيات. إنه تاريخ يذكر لنا قصةَ حربٍ
أنقذت فتاةً من الأسر ولا يذكر لنا مصائبَ آلافٍ من الفتيات اللواتي أصبحن سبايا
أو جواري يُمتعن الأمير في قصره، وقلما يذكر أولئك الذين قُتلوا في بطون أمهاتهم،
لأن الجنين والطفل بعُرف الهمجيّ ليس بريئاً بل هو مشروع رجل مذنب! فالقضاء عليه
وعلى أمه واجب مقدس. وقُل لي إن هذا لم يحدث؟!
الأمر بالمعروف
يقول كثير من
الداعين إلى الحرب إنا لم ندعُ لها إلا أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر. وجميلٌ
أن تأمرَ
بالمعروف وتنهى عن المنكر، لكن كم من الأمر بالمعروف ما كان قمعاً أو إبادةً أو تدخلاً
في شؤون شخصية، وكم من النهي ما كان منعاً لهواية جميلة أو طقس معتاد أو
أكلة مفيدة؟ وإذا اتفق أكثر الناس على أن القتال في سبيل الله واجب مقدس، فإنهم لا
يتفقون على معنى "سبيل"، هذا إذا اتفقوا على معنى "الله"؟
استراحة الملاكم
يؤمن كثير من الناس بأن القتال لابد منه
لتقوية دين أو عقيدة أو قومية أو أية فكرة من الأفكار التي يجتمع عليها مجموعة من البشر.
وقد يأخذ هذا القتال بعداً كونياً فيرتبط بالغاية من وجود تلك الجماعة.
في هذه الحال لن تكون فكرةُ
السلم إلا راحةً
بين الحروب لالتقاط الأنفاس ثم معاودة الحرب من جديد، إنها
استراحةُ الملاكم بين جولة وجولة. فلا يصبح السلم غايةً يسعون إليها بل هو وسيلة من وسائل حفظ
النفس والتربص بالآخَر إلى أن تحين فرصةُ الانقضاضِ عليه.
ولا تظن أن كل من دعا إلى سلمٍ
يقصد السلمَ
حقاً، بل ربما تكون خدعةً منه لإسكات الآخرين ثم السيطرة عليهم. وعندما تنجح مثلُ
هذه الخدعة فإنها تبقى في ذاكرة المغلوب مئات السنين، فيقول لو أننا لم
نوافق على السلم لما حدث ما حدث. إنهم يبدؤون من جديد بالدعوة إلى الحرب وتثقيف
الآخرين على أن شنَّ
حربٍ
خاسرة خيرٌ
من الموافقة على سلمٍ
مُذِل.
ويؤخذ
هذا على أنه مبدأ عام ليس محكوماً بظروف متغيرة. هذا من جانب،
ومن جانب آخر يُبنى كثيرٌ من دعوات السلم على فكرة الحرب نفسها،
فليكن السلام بينكم قائماً لكي تتمكنوا من محاربة أعدائكم، واحتفظوا بجهودكم التي
تبددونها لمقاتلة بعضكم البعض، احتفظوا بها لقتال الآخر. أما الآخر
فليس ثابتاً، مرة تتسع دائرته ومرة تضيق، ربما الآخر من هو خارج العائلة،
أو ربما كان طائفة أخرى أو حزباً أو دولة أو أمة. أفهذه دعوة إلى سلم أم دعوة إلى حرب من نوع مختلف؟
هناك مسوغات لمثل هذا الاعتقاد،
فالتاريخ يخبرنا أن الناس قد حصلوا على حقوقهم بالقوة، قوة القتال، وأن
الأفكار انتشرت بالقوة أيضاً، وأن عملية الإقناع غير نافعة إلا في مجال محدود وعند
تساوي القوى، ويؤدي كل ذلك إلى تكوّن فكرةٍ هي أنه لا بد من القتال.
أصوات دعاة السلام
إن من يدعو إلى السلام
يعبر عن معاناة من الحرب، سواء كانت معاناة حقيقية قد مر
بها هو نفسه ولا يريد أن يمر بها آخرون، أو أنه توقع أن تكون مثل تلك المعاناة بحكم
خبرته وحكمته. وكلما
اشتد القتال ارتفعت أصواتٌ
مطالبةٌ
بوقفه،
لكن قد لا يجد الداعي إلى السلام من يستمع إليه، لا لأن الناس يرغبون عن الاستماع إليه بل لأن أصواتاً عالية كثيرة تطغى
على صوته.
مع ازدياد الحروب ودعاتها لا تخلو
الأرض من دعاة إلى السلم وحل الأمور سلمياً وإن كان الحل بطيئاً. قد لا يكون الحل
السلمي مثيراً عاطفياً، لأن الحل الأمثل عند كثيرين، لحسم قضية ما، أن
تقتل المقابل فلا تسمع بعده جدالاً أو نقاشاً، فالقتل سريع والنقاش
طويل. وهذا ما فعله
كثيرٌ من الناس في أزمنة مختلفة، لكن مثل هذا الحل يؤجِل ولا يحل. وكثيرٌ من المشكلات
التي نعيشها مؤجلٌ لم يُحسم من قبلُ ونحن نظن أنه جديد.
لا تقل الدعوة إلى السلم خطورةً عن
الدعوى إلى الحرب، فكم من داع إلى السلم لم ينجُ من سبٍّ
أو شتم
أو لعن
أو قتل بسبب ما دعا إليه؟ قد يُقال إنه جبان، وما كانَ
أبعدَه عن الجبن، إنه شجاع حليم يحتمل أيَّ شيءٍ ولو كان ظلم التاريخ. ليست الحرب خارجة عن الطبيعة عامةً وطبيعة
البشر خاصةً، لكنَّ القضاء عليها هدف إنساني سام قد يفخر به الإنسان في
يوم ما إذا حققه.
د. فيصل غازي مجهول
(نجم المشرق، العدد(51) السنة الثالثة عشرة (3) 2007).