دار بين أوساط الباحثين في فلسفة ابن رشد نقاش حول طبيعة النص الرشدي، وهل هو نص أصيل أم مجرد شرح لنص آخر؟ وهل تعبر شروحاته عن رأيه الحقيقي في المسائل التي بحث فيها، أم أنها تعبر عن الفكر المشروح وحسب؟
لقد مارس ابنُ رشد الشرح، بل تفوق به
على الفلاسفة الآخرين، حتى أنه امتاز عنهم بشروحه الكثيرة، والمختلفة للنص
الأرسطي، فكانت له شروح كبرى ووسطى وصغرى. أما شكل الشرح الكبير فهو خاص به، وكلًّ
مَن مارس الشرح قبله كان يستعمل طريقة التلخيص. ويقول رينان: " من الواضح أن
يكون ابن رشد قد اقتبس من مفسري القرآن هذا المنهاج في العرض الحرفي حيث يُفرق
بدقة بين ما هو خاص بالمؤلف وما هو خاص بالشارح". وواضح أن المقصود بذلك توفر
عامل الدقة، وعزل النص الأصلي عن النص الشارح أو المفسِّر، وقد أراد مفسرو القران
أن يبقى كلام الله معزولاً عن كلام الإنسان، وذلك لقدسيته. أما ابن رشد فقد عزل
أيضاً النصَّ المشروح عن كلامه في شروحه الكبرى، وذلك من أجل أن يكون الشرح
دقيقاً، وكان أيضاً يحترم أرسطو إلى درجة تقترب من التقديس. فعندما يكون الشيء
مقدساً فهذا يعني أنه يبتعد عن إمكان الوقوع في الخطأ، وأن أية مشكلة تصادف من
يتعامل معه راجعةٌ إليه لا إلى النص؛ أي أن الخلل يكون في الفهم لا في النص.
لقد كانت شروح الفارابي وابن سينا
لأرسطو متأثرة بالشراح اليونان أمثال ثامسطيوس (317-388م) والاسكندر الأفروديسي
(ت205م) وسنبلقيوس (ت533م) وغيرهم، وكانوا أيضاً يصنفون ما يعرف بالجوامع
والتلاخيص. لكن الفضل في أسلوب التفسير الأصيل للنص الأرسطي يعود إلى ابن رشد،
وتلك الدقة المتناهية في الشرح جعلت منه فيما بعد يُلقَّب بلقب " الشارح
الأكبر " لأرسطو.
لم يستسغ هذا اللقب بعض الباحثين، لأنه
يوحي بعدم الإبتكار، والتقليد، ومن هنا راحوا يبحثون عن فلسفة خاصة بابن رشد،
ويُبرزون كتبه التي هي ليست شروحاً لأرسطو، ويعدونها الكتب الوحيدة التي تمثل رأيه
الحقيقي، أما كتبه الأخرى فهي ليست أكثر من شروح، وقد لا تعبر عن رأيه الحقيقي.
ومهما تكن النتائج فإننا لا نستطيع أن ننفي عن ابن رشد أنه كان شارحاً لأرسطو
بالدرجة الأولى، مع الأخذ بالحسبان أن الشرح ليس تهمة قللت من شأنه؟ فعلى الرغم من
أنه كان قد عُرفَ بهذا اللقب عند الفلاسفة الأوربيين، فإن ذلك لم يقلل من شأنه
عندهم، بل ربما لم يوجد من يضاهيه في منزلته عندهم، إن سلباً أو إيجاباً. فقد أثار
من المشكلات بشروحه ما لم يُثرها منتجُ نصٍ أصيل، ولم تكن هذه المشكلة تعنيهم
كثيراً، لأنهم شُغلوا أيضاً بما شُغل به ابن رشد هو نفسه من مشكلات.
آراء بعض الباحثين في ابن رشد الشارح
" التلخيص " عند ابن رشد، أصلاً، في رفع قلق المصطلح وقلق الجملة من النص المترجم، لذا فقد تتبع النص جملةً جملة ونقله نقلاً إلى حد أن ما يلخصه يظهر بمظهر ترجمة من درجة أسلم".أسباب إعادة النص
النقد من خلال الشرح
لقد تأثر ابن رشد بأرسطو تأثراً كبيراً،
وعبارات الإعجاب به تنطق بها معظمُ كتبه. ولم يكن الإعجاب بأرسطو غريباً عن
الفلسفة الإسلامية، فمعظم الفلاسفة المسلمين نهلوا منه وعظموه، وإن كان ذلك
الإعجاب والتقدير والتعظيم متفاوتاً من واحد إلى آخر، وكان ابن رشد أكثرهم إعجاباً
به وتقديراً له. ويقول حسام الآلوسي بأن عودة ابن رشد إلى أرسطو " هي
عودة عقل واعٍ، مطلع على تاريخ الفلسفة، ومذاهبها، وجد الحق عن وعي في مذهب من
مذاهبها، شُوِّه من قبل الدارسين عن جهل أو سوء فهم"، وذلك المذهب هو مذهب
أرسطو. ويقول محمد زنبير: "أرى من واجبي، قبل كل شيء، أن أصحح نظرةً
طالما ذاعت وشاعت على يد مؤرخي الفلسفة الأوربيين، وهي أن ابن رشد مجرد شارح ومفسر
لأرسطاطاليس...". وهو يرى أن هذا الرأي برز ونادى به عددٌ من المؤرخين
والمفكرين الأوربيين تحت تأثير عوامل عدة، أولها أن هذا الرأي يترجم عن موقف فكري
ناشئ بكيفية طبيعية عن أيديولوجية أوروبية مرتبطة بعصر الاستعمار فيما بين القرنين
19و20.. وهي أيديولوجية كان من المستحيل معها النظر بموضوعية وتجرد، حتى في
الأوساط الجامعية، إلى تاريخ العرب وحضارتهم وثقافتهم. وثانيها: اهتمام الأوروبيين
بالفلسفة اليونانية التي يعدونها أساساً لفلسفتهم جعلهم لا يقيمون وزناً لابن رشد
إلا من حيث كونه مدخلاً أساسياً للفلسفة الأرسطية التي تمثل تتويجاً للمجهود
اليوناني الكبير في ميدان الفلسفة فابن رشد لا يقصد لذاته، وإنما كدليل ومرشد
لتراث حضاري يعتبره الأوربيون بمثابة تراث قومي لهم. ولا ينكر زنبير استفادة ابن
رشد من أرسطو، لكن الأمر الأهم من هذا في نظره هو التوجيه الجديد الذي أعطاه
للموقف الفلسفي داخل المجتمع الإسلامي. ومن ثم يسجل قطيعة بين أرسطو وابن رشد
بناءً على اختلاف المجتمع، فيقول: " صحيح أن الفيلسوف يحاول أن يرتفع من
النسبي إلى المطلق وأن يجتاز من العرض إلى الجوهر. ولكنه في محاولته تلك إنما
يخاطب معاصريه بلغتهم التي يفهمونها، مستجيباً لاهتماماتهم وشواغلهم، مدركاً
لموافقتهم واعتراضاتهم. ولذلك، فلا مندوحةَ لنا من أن نسجل قطيعة بين ابن رشد
وأرسطو، لأن تلك القطيعة واضحة بين مجتمع أرسطو ومجتمع ابن رشد".
لكن، هل كل ما كتبه الأوربيون خالٍ من
النظرة الموضوعية؟ وأين نضع كل أولئك الذين قالوا بأثر الحضارة العربية في الحضارة
الأوربية؟ وعلى العموم هذه مسألة يجب ألاَّ يُقال فيها قولٌ عام لا يُفرق بين
دوافع الكُتَّاب ونواياهم واتجاهاتهم. أما إذا كانوا لا يقصدون ابنَ رشد لذاته
وإنما من أجل تراثهم القومي، فهذا يعتمد طبيعة دراساتهم له، فليست كل دراسةٍ تُعنى
بالفيلسوف لذاته، وإنما قد تكون من أجل فيلسوف آخر، أو من أجل ثقافة أخرى، أو من
أجل غرض معين. وتبقى مسألة معرفة الدافع الذي دفع الباحث إلى الدخول في مجال من
دون مجال آخر مسألة صعبة، إذ ليس من السهل القول إن جميع المشتغلين بالفلسفة
الإسلامية من الأوربيين قد صدروا عن نزعة استعمارية، ولا يمكن أيضاً تنزيه الجميع.
وأما مسألة القطيعة بين أرسطو وابن رشد اعتماداً على القطيعة بين مجتمعيهما، فهذه
مسألة غريبة، لأن هناك من المسائل الفلسفية الكبرى ما لا علاقةَ لها بطبيعة المجتمع،
فهي تنتمي إلى الفكر الإنساني عامة، ولو كان كل مجتمع ينفصل عن المجتمعات الأخرى
بفلاسفته ومفكريه لما كانت هناك إمكان للتواصل والاستمرار في الإنتاج الفكري بين
جميع المجتمعات، ولأصبحت كل أمة تعيش على إنتاجها الفكري الذاتي، من دون الأخذ
والعطاء مع المجتمعات أو الحضارات الأخرى. ثم هل كان أرسطو على وفاق مع معاصريه؟
وهل استجابوا لكل ما كان يطرحه؟ وهل كان فعلاً يستجيب لاهتماماتهم وشواغلهم؟ ليس
ذلك صحيحاً، فقد تعرض أرسطو في زمانه لسوء فهم معاصريه، كما تعرض لذلك كثير من
الفلاسفة، سوء فهم أو إحساس بالخطر قد يصل إلى حد القتل. فليس هناك ما يبرر
القطيعةَ بين أرسطو وابنِ رشد بناءً على اختلاف المجتمع اليوناني والمجتمع العربي.
وصحيح أن فلسفةً ما تتغير من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان، ولكن لا يصل هذا
إلى حد القطيعة.
إذا عدنا إلى الشرح، فالمسألة ببساطة هي
أننا لو جمعنا مؤلفات ابن رشد لوجدناها شروحاً لأرسطو بشكلٍ أو بآخر، بعيداً عن
أية دوافع استعمارية، وبعيداً عن تلك النظرة التي تحاول التقليل من شأن ابن رشد.
وهذا لا يعني أن الشرحَ عمليةٌ آلية لا إبداعَ فيها. وما يُرفض هو أن نُعلي من شأن
ابن رشد بقولنا إنه لم يكن شارحاً، فقد أخذ ابن رشد على عاتقه مهمةَ شرح النص
الأرسطي، وتنقيتِه من كل ما علق به من أفكار وآراء دخيلة عليه، ولا سيما
الأفلوطينية. ويقول إدوارد جونو: "مع ذلك، وكأكثر أمثاله في الدين،
فقد أدخل ابن رشد في شروحاته عناصرَ كثيرةً من الأفلاطونية الحديثة". لكن هذا
الرأي ليس صحيحاً إذ إن ابنَ رشد في هذه المسألة لا يتساوى مع بقية الفلاسفة
المسلمين. وإذا كان هذا الحكمُ ينطبق على معظم الفلاسفة المسلمين، فهو لا ينطبق
على ابن رشد.
يقول حسن حنفي عن أسلوب الشرح
عند ابن رشد: " لا يعني الشرح تغيير لفظ بلفظ آخر أو عبارة بأخرى بل يعني
دراسة ابن رشد لموضوع بذاته ثم الاستشهاد بأرسطو، لذلك لا يبدأ ابن رشد بقوله: قال
أرسطو ولكنه كثيراً ما يقول: " قال أبو وليد … " ثم مستشهداً بأرسطو.
ليس أرسطو هو الباحث وابن رشد هو الشارح بل إن ابن رشد هو الباحث وأرسطو هو المؤيد
والشارح لنتائجه والمثبت لها".
وكل ما يستشهد به حنفي هو من تلاخيص ابن
رشد، وطبيعة التلخيص تختلف عن طبيعة الشرح الكبير، ومع ذلك فإن التلخيص لا يخرج عن
الفكرة الأرسطية، ولا يختلف عنها إلا في الأسلوب. أما الشروح فإنه يبدأ فيها
بقوله: " قال أرسطو… " ثم يأخذ بشرح ما قاله أرسطو، أي أنه عكس ما قاله
حنفي تماماً. بل ربما كانت هذه هي الميزة التي تميز شروح ابن رشد من غيره، وهي
الدقة في نقل قول أرسطو فقرةً فقرة، أو حتى كلمةً كلمة في بعض الأحيان.
كمال فلسفة ارسطو
لقد اختار هذا الأسلوب في الكتابة،
وفضله على غيره من الأساليب، اعتزازاً بأرسطو واعتقاداً منه بصدق ما جاء به، وبرع
فيه وتفوق على الشرَّاح الآخرين. كان يرى أن من الواجب شكرَ المحدثين مع المتقدمين
" ذلك أن القدماء يتنزلون من المحدثين منزلة الآباء من الأبناء إلا أن ولادة
هؤلاء أشرف من ولادة الآباء لأن الآباء ولدوا أجسامنا والعلماء ولدوا أنفسنا
فالشكر لهم أعظم من شكر الآباء والبر بهم أوجب والمحبة فيهم أشد والاقتداء بهم أحق
فهو يقول [أي أرسطو] مؤكداً لهذا الغرض أنه ليس ينبغي أن نقتصر من شكر من سلفنا
على شكر الذين علمونا آراء صادقة وهم الذين رأينا مثل رأيهم بل ومن لم نرَ رأيه
فإن هؤلاء أيضاً بما قالوا في الفحص عن الأشياء خرجوا عقولنا وأفادونا بذلك القوة
على الإدراك الحق". وقد كان قوله هذا شرحاً لقول أرسطو؛ أي أن هذا الرأي
يعبِّر عن رأي أرسطو في القدماء الذين سبقوه وأسهموا في بناء المعرفة، سواء منهم
الذين أخذ برأيهم أو الذين لم يأخذ برأيهم. ويقول ابن رشد أيضاً: " وإذا كان
هذا واجباً على أرسطو مع قلة ما كان عندَ مَنْ تقدَّمه من معرفة الحق وعظم ما أتى
به من الحق بعدهم وانفرد به حتى أنه الذي كمل عنده الحق فكم أضعاف ما وجب عليه من
الشكر يجب على من جاء بعده من شكره ومعرفة حقه وشكره الخاص به إنما هو العناية
بأقاويله وشرحها وإيضاحها لجميع الناس ". فالعناية إذن بأقاويل أرسطو وشرحها
وإيضاحها لجميع الناس واجب على من جاء بعده. فأرسطو قد كمل الحق عنده، وما على
الذي يأتي من بعده إلا إيضاح آرائه وشرحها. ويقول عنه: "أؤمن بأن ذلك الرجل
[أرسطو] كان القانون في الطبيعة والمثال الذي وجدته الطبيعة لتبيِّن الكمالَ
الإنساني الأخير في الهيولات".
إن اعتقاد ابن رشد بكمال الفلسفة عند
أرسطو هو ما جعله يتجه نحو النص الأرسطي. فأرسطو هو الكمال، هو البرهان، هو
النهاية. كان يرى أن أرسطو قد بلغ القمة، وكل ما علينا هو أن نصل إلى هذه القمة من
الطريق نفسه الذي سلكه، أما الطرق الأخرى فلا تُوصِل إليها. ويصبح تاريخُ الفلسفةِ
تاريخَ الشروح على أرسطو. لقد وقف ابنُ رشد مع سلطة أرسطو، ضد أيِّ تجديد يُحاول
أن يخرج عنه، ولعله لا يرى للتجديد معنىً مادام القديم يفي بالحاجة وهو الكامل
التام، فليس هناك من حاجة إلى أنظمة فلسفية جديدة مادام هذا النظام موجوداً وقد
أثبت جدارته. ولمحمد عابد الجابري رأي آخر بشأن مسألة تأثر ابن رشد بأرسطو يقول:
" نعم، لقد كان ابن رشد معجباً بأرسطو، وكان يرى أن فلسفة أرسطو هي وحدها
التي تستحق هذا الاسم. ولكن هذا الإعجاب لم يكن بسبب ما يقوله أرسطو في هذه
المسألة أو تلك، بل لأن فيلسوفنا كان يرى في الفلسفة الأرسطية بناءً متماسكاً
يشدُّ بعضُه بعضاً، الشيء الذي تفقده الفلسفات السابقة له، والتي لم تكن تتوفر على
مثل هذا التماسك المنطقي... فدفاع ابن رشد عن آراء أرسطو لم يكن راجعاً دوماً إلى
تأييده في هذه القضية أو تلك، بل إلى رغبته في إبراز كيف أن تلك الآراء لها ما
يبررها داخل المنظومة الأرسطية نفسها، أي أن الصدق فيها متحقق داخل المنظومة لا
خارجها ". وهذا كلام صحيح، لكن في النهاية أصبح ابن رشد يدافع عن أرسطو في
أية مسألة يقولها، وبغضِّ النظر عن بدايات تأثره بأرسطو والأسباب التي دفعته لهذا
التأثر، ولا تخلو الفلسفات الأخرى مما يبرره داخل منظومتها.
طبيعة الشرح
أما عن طبيعة الشرح عموماً فهي بالتأكيد
ليست عقيمة تماماً، لأن الشارح يشرح النص على وفق طبيعة تفكيره، أو على وفق
منظومته الفكرية. فكلُّ نصٍ مشروحٍ لا يُعبِّرُ عن فكرِ صاحب النص وحسب، بل يُعبر
عن فكر الشارح أيضاً، وإلا لما كان هناك من اختلافٍ بين الشُّراح، ولما كان هناك
من داعٍ إلى الشرح. ويتبنى الشارح - مثل ابن رشد - المنظومةَ الأرسطية بأكملها،
ومن ثم يأخذ بشرح فقراتها على وفق تلك المنظومة. وهذه ليست عملية تفسير لمعاني
النص، وإنما هي عملية لتفسير النصِّ من داخل النص نفسه، أو من نصوص أخرى لأرسطو
تؤيد هذا التفسير، هي عملية ذهابٍ بالنص إلى أقصى ما يحتمل، إذ قد لا يكون في النص
المشروح ما يكفي، ولهذا يستعين الشارح بنصوص أخرى لأرسطو. وأيُّ نصٍّ فلسفي يحمل
في ذاته إمكان شرحه؛ ولهذا نرى دائماً أن النصَّ واحدٌ والشروح كثيرة، ذلك أن النص
كالماء يأخذ لون الإناء الذي يوضع فيه. لكن بعد ابنِ رشد صار الشرحُ واحداً
والفلسفات كثيرة. والمسألة لا تخصُّ النصَ وحده وما يحمله من دلالات، بل تخص
الشارح أو المفسر له، فدلالة المفاهيم الفلسفية تتعرض للتغير، ولا سيما عندما تكون
النصوص منقولة، ولهذا نرى في كثير من الأحيان أن النص يُحمَّل أكثرَ مما يحتمل، إذ
إن المنظومةَ الفكريةَ التي يدخل فيها هذا النصُّ الجديد، غيرُ المنظومة الفكرية
التي أنتجت النصَّ لأول مرة، ذلك إذا أراد المنتج الجديد للنص أن يُبقيَ على
الأصل.
إن الأسباب التي تدعو إلى إعادة النص -
إن كانت شرحاً أو تلخيصاً - إما أن تكون علمية؛ بمعنى أن الشارح يكون متأثراً
بالنص المشروح، ويحاول أن يُشبعه درساً عن طريق الشرح والتفسير، ويحاول أيضاً أن
يطرح أفكاره من خلاله، ويستعمله في حل المشكلات الجديدة. وإما أن تكون تعليمية؛ أي
أن الشارحَ يقوم بالشرح والتلخيص لأغراض تعليمية للتوضيح والتبسيط. أو لأسباب
عملية، وهي فائدة شخصية يحققها الشارح. فكثير من الفلاسفة كانت لهم ارتباطات قوية
بذوي الجاه والسلطان، فإذا ما طلب أحدهم من الفيلسوف أن يشرح ما قد شرحه السابقون
فإنه لا يمتنع ولا يحيل إلى الشروح السابقة التي من الممكن جداً أن تفي بالغرض، بل
نراه يأخذ بشرحها من جديد، وبالتأكيد تكون هناك إضافات حتى وإن كرر الفيلسوف ما قد
كتب. لكن هل يبرر حجم الإضافة ذلك التكرار؟ هذا الكلام لا أقصد به ابن رشد وحده،
وإنما هي ملاحظات عامة عن أسلوب الشرح والإعادة والتكرار.
يقول طه عبد الرحمن عن التلخيص:
"ليس ينتظر من " التلخيص " أن يتخذ إحدى صورتيه التقليديتين:
" فيكون نقلاً مركزاً وأميناً لمضمون نصٍ ما أو يكتفي بإبراز الأفكار الرئيسة
للنص. وليس ينتظر من " التفسير " هو بدوره، أن يكون مجرد شرح الألفاظ
التقنية والغامضة، وتوضيح المقاصد الفلسفية للنص، والتعليق عليها إذا اقتضى الحال.
تقوم مهمة
فإذا كان ابن رشد قد ارتضى لنفسه أن
يكون شارحاً لأرسطو، بل نذر نفسه لشرح أرسطو، فلماذا نأتي الآن وننفي هذه التهمة
عنه؟ ذلك إن كان الشرح تهمة. لقد كان ابن رشد يدور في فلك أرسطو عن قناعة تامة،
وربما لو أنه سمع بلقب " الشارح الأكبر " لتشرف به وسعد. وعليه وحده تقع
مسؤولية الشرح سلباً أو إيجاباً.
ليس الوقوف على مضامين النص الفلسفي هو
الواجب الوحيد لابن رشد، وإنما كان عليه أن ينقد آراء الفلاسفة الآخرين وأن يبين موقفه
منهم. فبموقفه من الآخرين يبرز موقفه تجاه المشكلات الفلسفية المدروسة. وكما كان
أرسطو على بينة من آراء الفلاسفة الذين سبقوه، فقد كان ابن رشد أيضاً على بينةٍ من
آراء الذين سبقوه، وكان بين ثنايا شروحه ينقد ويقوِّم ويصحح آراءهم، بحسب مصادره
الأرسطية. وما يهمنا الآن منهم الفلاسفة المسلمون، ولاسيما الفارابي وابن سينا
أكبر علمينِ في الفلسفة الإسلامية المشرقية.
على الرغم من أن ابن رشد ينقد كلاً من
الفارابي وابن سينا، لكنه كان يقدر الفارابي أكثر من ابن سينا. وليس هذا بالغريب،
إذ إن الفارابي كان قد احتل منزلةً خاصةً عند فلاسفة الأندلس، بل عند معظم
الفلاسفة المسلمين، ولا سيما في المنطق. ويقول ابن طفيل: " وأما ما وصل إلينا
من كتب أبي نصر فأكثرُها في المنطق". وقد كان ابن باجة أكبرَ مَنْ تأثَّر
بأرسطو في ذلك العصر، فلم يكن هناك - كما يشير ابن طفيل - من هو أثقب ذهناً، ولا
أصح نظراً، ولا أصدق رؤية، منه، ولكن أكثر مؤلفاته غير كاملة، وأما كتبُه الكاملة
فهي كتب وجيزة ورسائل مختلسة. وكان ابن باجة قد شرح مؤلفات أرسطو تحت ظل رعاية
الأمراء المرابطين. لكن شروحاته لأرسطو لم تبلغ من الدقة والكثرة ما بلغته شروحات
ابن رشد.
يقول نوغاليس بأن ابن رشد قد أخذ الكثير
من العناصر من الفارابي " وخاصة من تعليقاته حول المنطق... فإن ابن رشد
يتناول كثيراً من شروحاته، وفي بعض الأحيان يتناولها حرفياً وخاصة في المقولات. بل
يصل إلى ما هو أكثر من ذلك إذ يشرح أرسطو حرفياً مقتدياً بشروح الفارابي ".
وهذا لا يعني أنه لم ينقد الفارابي، ولكنني أردت أن أقول أن نصيب ابن سينا من
النقد كان أكبر. وإلا فإن نقد نظرية الفيض لا يخص ابنَ سينا وحدَه، بل يخصُّ جميع
القائلين بها.
د. فيصل غازي مجهول
(جريدة الصباح، العدد(340)، الأحد 22/8/2004).