recent
أخبار ساخنة

الطفل والتعليم

الرغبة في الإصلاح

قد يحتار المرءُ في نوع التربية والتعليم الذي ينبغي أن يُعطى للأطفال، لأن هناك أفكاراً واتجاهاتٍ كثيرة حول ما ينبغي أن يتعلمه الطفلُ والهدف من ذلك التعليم. وتدل هذه الحيرةُ على إخلاصٍ في نية التوصل إلى أفضل الطرق في التربية والتعليم. ولا مفرَّ من الاستعانة بالمختصين المخلصين من المربيات والمربين في هذا المجال. وكل شيء قابل للإصلاح، ولا يوجد زمان قد كفَّ الناس فيه عن الإصلاح نهائياً.

فيصل مجهول

تتم عملية التعليم بوجود المعلِّم والمتعلِّم ومادة التعليم وطريقة التعليم، ولابد من وجود هدف من التعليم. وقد يحدث خللٌ في واحد أو أكثر من هذه العناصر، فقد يكون الهدف نبيلاً والطريقة سيئة، أو تكون الطريقة جيدة والمادة سيئة… وهكذا. وما يزال المربون والمعلمون والمفكرون والفلاسفة في بحثٍ مستمرٍ عن كل ما يطور التربيةَ والتعليم، إذ ليس هناك من حد يصل إليه الإنسان فيقول لقد وصلت إلى أفضلِ الطرق والأساليب بشكل نهائي، ذلك أن المعلومات في تغير مستمر وكذلك طرائق الإيصال.

 خطوة كبيرة أنجزها الإنسان

لقد أنشأ الناسُ، بحكم تطورهم الفكري والاجتماعي، المدرسةَ كي تعلمَ الأطفالَ مسائلَ كثيرةً في الحياة، وتعطيهم خلاصةَ الفكر العالمي الصحيح في مجالات متنوعة كالعلم والفن والأدب وغيرها. وكم كافح المفكرون والمصلحون من أجل أن يُشيعوا التعليمَ بين جميع الناس، ومن أجل أن يكون كلُّ فردٍ قادراً على الدخول إلى المدرسة مجاناً. ثم لم يكتفوا بأن جعلوا التعليم مجانياً في مرحلةٍ من مراحل الدراسة بل جعلوه إلزامياً، لما في هذا الإلزام من فائدةٍ تعود على المجتمع. فطالبوا بأن يكون التعليم حقاً من حقوق الإنسان بوصفه إنساناً لا لأنه ينتمي إلى طبقةٍ معينة من طبقاتِ المجتمع. وكانت هذه خطوةً كبيرةً أنجزها الإنسانُ، وله أن يفخرَ بها أكثر من أن يفخر بالحروب التي خاضها والتي سالت فيها أنهار من الدماء سقت أشجار الأحقاد التي ما يزال الناس يأكلون من ثمارها.

 الدفاع عن المواقع

ولا تظن أن بعضاً من الناس قد رحبوا بفكرة إنشاء المدارس في البداية، فكم حارب أصحابُ العقولِ المنغلقة فكرةَ إنشاءِ المدرسة، وكم ارتابوا من التعليمِ الذي يأتي عن طريقها؛ ذلك أنهم كانوا متقوقعين في مؤسسات قديمة لم يريدوا لها أن تتغيرَ، فخافوا على مواقعِهم التي وفرتها لهم تلك المؤسسات. وعندما غُلبوا على أمرِهم سمحوا للذكور فقط بالتعلم وما سمحوا للإناث تحت أعذار كثيرة لا حصر لها. لكنَّ الموجةَ كانت أكبرَ من أن تُقاوم، وقد ضحى من أجلها كثيرٌ من الناس، منهم من ذكرَ التاريخُ اسمَه ومنهم من نُسي اسمُه ولم يبقَ منه إلا نتائجُ أفعالِه. ولو سُمح الآن لبعضِ أصحابِ تلك العقولِ بأن يمارسوا سلطتَهم لما أبقوا مدرسةً على وجهِ الأرض، ولربما منعوا الفتيات من التعلم منعاً لن يعجزوا عن الإتيان بألف دليل على صحته. وما نفعُ الأدلةِ والنقاشِ إذا كانوا متسلطين قمعيين لا يؤمنون بالنقاش والحوار؟ والذي ذكَّرني بهذا الأمر أن كثيراً من هذه الأفكارِ قد عادت للظهورِ في أيامنا هذه، تحت مبرراتٍ شتى منها دينية ومنها اجتماعية.

 السيطرة على التعليم

لما كانت المدرسة مهمةً في المجتمع فقد سعت أنظمةٌ سياسية كثيرة للسيطرة عليها، سواء على المادة أو المعلم، لأنها أرادت أن توجهها التوجيه الذي تراه مناسباً لها، أي لتلك الأنظمة. فربما أرادت أن تخلق جيلاً معداً لخوضِ الحروب في المستقبل، أو للدفاعِ عن شخصٍ واحد وفكر واحد. ولن تكون تربيةُ طلابِ الحرب لأطفالهم كتربيةِ طلاب السلم لهم. وما كانت تلك الأنظمةُ مخطئةً لأنها انتبهت إلى مؤسسةٍ مهمةٍ من المؤسساتِ التي تؤثرُ في المجتمع تأثيراً كبيراً فحاولت أن تسيطرَ عليها وأن تسخرها لخدمة أهدافها. فإن خلت المدينةُ الكبيرةُ أو القرية الصغيرة أو المنطقة النائية من معملٍ أو مسرحٍ أو مطعم أو فندق، فإنها لا تخلو من مدرسة، لاسيما الابتدائية.

 زراعة الأحقاد!

ولسوء برامج التعليم في بعضِ الدول وتسخيرها لأهداف لا تخدم المجتمعَ على المدى البعيد، انعكست الحال، فزرعتْ تلك المؤسساتُ التعليميةُ أحقاداً كان يمكن ألا تكونَ لو تُركت لحالها. فالطبيعةُ لا تزرع أحقاداً بين الكائنات، وإن رأينا بعضَها يأكلُ بعضاً فلحاجةٍ ماسة لا رغبة في الانتقام كما عند البشر. لقد علموا الطفلَ حبَّ الوطن، وهذا أمرٌ جيدٌ وطبيعي، على الرغم من أن حبَّ الوطن شعور وإحساس قبل أن يكون تعلماً، لكنهم حرفوا الشعورَ والإحساس، إذ إنهم مع تعليمهم له حبَّ الوطنِ علموه أن يكرهَ الآخرين لأنهم أعداء لوطنه، وما علموه أن الآخرين يمكن أن يكونوا أصدقاءَ لا أعداء، فجعلوا العداءَ شرطاً للمواطنة. علموه أن يُحب دينَه ويُسفِّه أديانَ الآخرين، فأقنعوه بأنه المؤمنُ الوحيدُ وغيرُه كُفَّار، وان له حقَّ الوصايةِ على أديان الآخرين. ففي حياته اليوميةِ الطبيعية يرى جارَه الذي يختلف عنه ديناً وقوميةً إنساناً اعتيادياً يلعبُ معه اللعبةَ نفسَها ويأكلُ الأكلَ نفسَه ويستمع إلى الأغاني نفسها، ويحزن ويفرح مثله بالضبط. لكنهم قد يقولون له إن جارك هذا كافر أو ضال أو غير مكتمل الإيمان. علموه أن الحق كله عنده والباطل كله عند غيره. لم يعلموه أن الزلزال الذي يحدث في مكانٍ ما سببه طبيعي لا غضب من الإله على ذلك الشعب الذي لم يفعل أكثر مما تفعله الشعوب الأخرى. علموه أن لغته جميلة ويُمكن أن يكتب بها شعراً أو علماً، لكنهم علموه أيضاً أنها خيرُ اللغات وأفضل اللغات. علموه أن أرضَه خصبة فيها أنهار وخيرات، وهذا حق، وما علموه أن الناس يشربون الماء أيضاً في كل بقاع العالم، وأن ما يعطيه النهر تعطيه عينُ الماء في الجبل، أو البئر أو الواحة في الصحراء. علموه صنفين من الأخلاق صنف للاستهلاك النظري والآخر للحياة العملية. علموه أن يحفظ الأشياء لا أن يعيشها، فمن الممكن أن يحفظ الإنسانُ ألفَ قولٍ عن فضائل الصدق، لكنه يبقى من كبار الكَذَبة.

الحاجة إلى ثورة في التربية والتعليم

إن التربيةَ والتعليم قد يعلمان ويهذبان، وقد يخربان ويدمران ما كان اعتيادياً طبيعياً. وأهونُ على المجتمع أن يُتركَ الطفلُ بلا تعليمٍ من أن يُعلَّمَ تعليماً خاطئاً لا يُجنى منه إلا الخراب. لكن الأمور لا تبقى على حال، فلن يكف المصلحون عن الإصلاح مادامت هناك رغبة في الإصلاح واستجابة. وما كنا مسرفين إذا تكلمنا عن إصلاح التعليم كثيراً، فالحاجة إلى ثورة في التربية والتعليم لا تقل شأناً عن الحاجة إلى ثورات سياسية أو علمية إن لم تكن أهم منها.

فيصل مجهول

(مجلة نجم المشرق، العدد (42) السنة الحادية عشرة 2005).

author-img
فيصل غازي مجهول

تعليقات

google-playkhamsatmostaqltradent