recent
أخبار ساخنة

معنى الفلسفة عند برتراند رسل، مختارات

    إن السؤال عن معنى الفلسفة لا يفارق كل فيلسوف أو محب لها أو مشتغل بها. ولن تجد تعريفاً محدداً للفلسفة ولا معنى واحداً، بل تجد تعريفات ومعاني. وقد يتكشف معنى الفلسفة من خلال ممارسة هذا النوع من التفكير، ولو كان المعنى جاهزاً لما كتب أحد عنه كتباً وأبحاثاً ومقالات. إن تعريفات الفلسفة تأتينا من الفلاسفة، ويمكن أن نتأثر بتعريف أو نتبنى تعريفاً معيناً لها، مع الأخذ بالحسبان أهمية التعريفات والمعاني الأخرى لها. وليس بالضرورة أن يكتب كل فيلسوف عن معاني الفلسفة، إذ إنه يمارس التفلسف وينتج فلسفة. كما أن الشاعر قد لا يجيد التعبير أو الكتابة عن تعريفات الشعر أو معانيه!

رسل، برتراند رسل

معنى الفلسفة عند برتراند رسل، مختارات

    لقد اخترت برتراند رسل نموذجاً لفيلسوف يكتب عن معاني الفلسفة. وارتأيتُ أن أقتبس من كتاباته نصوصاً تعبر عما يرمي إليه بلا تدخل كبير مني. إن جهد الانتقاء، أو الاختيار، يختلف بالتأكيد عن جهد كتابة بحث، كما أن تحقيق النصوص يختلف عن ترجمتها، واختصارها يختلف عن شرحها. ولكل عمل من هذه الأعمال أهميته. وقد تكون النصوص المختارة أجدى وأنفع من التأليف، ذلك إذا قارنا بين مختارات مفيدة وأبحاث مهلهلة، وقد يكون الإبقاء على النصوص كما هي خيراً من تشويهها والتعامل معها بسذاجة.

    إن نصوص رسل عميقة، لكنها ليست معقدة، ولم يكن التعقيد هدفاً عنده. فهو ميال إلى التبسيط والإيضاح، لاسيما في كتاباته المتأخرة. لكن التعقيد، أحياناً، يزيد المرء شهرةً واحتراماً. ويذكرني هذا الكلام بنصيحة رسل للأساتذة، وهي لا تخلو من فائدة سواء كانت جداً أو هزلاً. قال رسل: هذا ما يدعوني إلى تقديم نصيحة إلى من كان أستاذاً من بين مستمعي، تلك هي أنني أملك أن أستعمل الإنجليزية البسيطة لأن كل إنسان يعلم أنني أستطيع أن أستعمل المنطق الرياضي إن أردت. خذ مثلاً هذه الجملة: "بعض الناس يتزوجون أخوات زوجاتهم بعد موتهن". فإنني أستطيع أن أعبر عنها بطريقة تقتضي القارئ سنين من الدراسة حتى يفهمها، وهذا مصدر حريتي. ولهذا أقترح على الأساتذة الصغار أن يصبوا عملهم الأول في رطانة لا تفهمها إلا العلية القليلة، وبعد أن يطمئنوا على هذا الرصيد يمكنهم أن يقولوا ما يريدون بلغة بسيطة يفهمها الناس.

    إن في مسألة التأثر والتأثير احتمالات عدة وأسباباً كثيرة. فتاريخ الفلسفة بكل ما فيه من فلاسفة وكتب وأفكار يُرسل للجميع، وتبقى احتمالات الالتقاط مفتوحة. فلِمَ يتمسك شخصٌ بأقوال فيلسوف، ويتبنى آخرُ آراءَ فيلسوف، ويُعجب غيره بفيلسوف...؟ وكذلك مع الشعراء والأدباء والفنانين... إنها مسألة تتعلق بالشخص نفسه من حيث تكوينه النفسي والاجتماعي والثقافي... ولا عجبَ إن كنتَ تقرأ لمُفكرٍ فكرةً قالها قبل ألف سنة فتظنُّ أنكَ أنت قائلُها لولا أن الزمان قد أعطاه الأولوية!

من المشكلات التي ترافق الفلسفة من حين لآخر أن يتم الدفاع عنها دفاعاً مهنياً أو عقائدياً. أما المهني فنوع من الدفاع يتبناه الذين تربطهم بالفلسفة روابط عملية أكثر منها فكرية. والنوع الثاني أن بعضهم متعصبون بطبعهم، فلا تهمهم مشكلةٌ ولا حل ولا موضوع بقدر ما يهمهم أن يبثوا روح التعصب في مسائل بعيدة كل البعد عن التعصب، أو يجعلوا أحد الفلاسفة مقدساً لا يمكن نقده أو المساس به، فالتعصب غاية عندهم، أما موضوعه فأمره يسير. إن بالإمكان كتابة صفحات كثيرة في نفع الفلسفة وجدواها، وفي أن كل شيء ينهار لولاها، لكن تلك الصفحات لن يرضى عنها ذو العقل الفلسفي. وكثيرٌ من الترغيب في الأشياء مسيء إليها، ولو تُرِكت بلا ترغيبٍ لرغب الناسُ فيها. فترغيب الضعيف الساذج فيها يزيد الناسَ ابتعاداً عنها. ومن المشكلات أيضاً أن حدود الفلسفة غير محمية، فقد يخترقها الباحث عن شهرة أو وجاهة، عندما لا يستطيع اختراق حدود التخصصات الأخرى. ويبقى المعيار صعباً في التفرقة بين ما ينتمي إلى عالم الفلسفة وما لا ينتمي، وفي إطلاق كلمة فيلسوف على شخص وعدم إطلاقها على شخص آخر.

جمعتُ هذه النصوص من بعض كتب رسل. ولم أتدخل إلا تدخلاً يسيراً للإيضاح، كأن أضعَ لفقرةٍ عنواناً لم يكن موجوداً في الأصل، أو أضيف مدخلاً قصيراً لما يريد رسل أن يقوله، أو أضع كلمة توضيحية بين قوسين، أو أصحح كلمة خاطئة، أو أتصرف بإعادة كتابة نص مترجم لأن فيه أخطاء أو عدم ترابط. والفضل كله لرسل أولاً وللمترجمين ثانياً وللناشرين ثالثاً، وإن بقي لي شيءٌ فليس أكثر من إشارة إلى جملة، وتنبيه إلى فكرة، وغايتي أن أختصر وأوضح "معنى الفلسفة عند برتراند رسل".

مقدمة البحث
د. فيصل غازي مجهول
(مجلة الأقلام، العدد الأول: كانون الثاني، شباط، آذار 2011، السنة السادسة والأربعون).

author-img
فيصل غازي مجهول

تعليقات

google-playkhamsatmostaqltradent