recent
أخبار ساخنة

استبدال الكل

ذهبَ الأستاذ الكاتب الباحث إلى الطبَّاع مهموماً، وقال له: لقد أنجزتُ بحثاً، وكتبتُ فيه اسم الفيلسوف الألماني ((Hegel)) بالكاف "هيكل"، ونصحني أحد زملائي بأن أجعله "هيغل" بالغين، أو "هيجل" بالجيم، لأنهما أكثر شيوعاً من السابق. وأتيتك الآن أطلب منك أن تغيره أينما ورد، وأعرف أن هذا عمل طويل متعب لك، لكن الوقت يحاصرني، إذ إن يوم غدٍ آخرُ موعد لتقديم بحثي.

فيصل مجهول

فقال له الطباع: أهذا فقط؟ إنها عملية بسيطة جداً، أنظر إلى الكومبيوتر... فكتبَ كلمة "هيكل" ثم كتب تحتها "هيجل" وأعطى أمراً للكومبيوتر ((استبدال الكل))، فتمت العملية بثواني قصيرة. فتعجب الباحث وأخذ يقول: يا للعلم! يا للتكنلوجيا! يا للتطور! لقد خدمتَني خدمةً لا تُنسى أبداً.

لم يكن الباحث يعرف أن هذه الخاصية موجودة في الكومبيوتر، واستغرب الطباع من هذه الفرحة، لأن الباحث قد كرر عليه أكثر من مرة: هل تستطيع أن تستبدل أية كلمة؟ هل.. هل..؟ لم يكن الطباع يعلم أن هذا الكاتب الباحث من الكتاب المطلوبين في كل مناسبة.

ذهب الباحث في الصباح الباكر إلى الطباع وقال له: سأكون صريحاً معك، فأنت رجل "على باب الله"، وأنا أفهم في كل شيء إلا في هذه المصيبة "الكومبيوتر"، سأعطيك ربع ما أستلمُه من المكافآت إذا ساعدتني في استبدال الكلمات والجمل. فوافق الطباع. قال الباحث: أنا مستعجل جداً وأرجو أن تستبدل "هيجل" بـ "أفلاطون"، فقد تبين أن المؤتمر عن الفلسفة القديمة لا الحديثة. فهل تستطيع؟ قال الطباع: لا أسهلَ منها. فكتبَ كلمة "هيجل"، ثم "أفلاطون"، وأعطى أمر ((استبدال الكل))، وانتهت العملية.

كان الباحث قد قدم البحث إلى مؤتمر فلسفي، وأهم ما في المؤتمر أن الجهة الداعية تتحمل جميع النفقات، ولا يهمها إلا البيان الختامي الذي يصوغه مجموعة من المثقفين الذين  يوصون ويستنكرون ويدينون ويشجبون ويطلبون... ثم يكتبون أن المؤتمر قد حقق نجاحاً كبيراً!

وإليك المقدمة التي كتبها الباحث: "إن أفلاطون فيلسوف عظيم، وقد أثر في الفلسفة تأثيراً كبيراً. فمن ذا الذي لم يستشهد بأعماله؟ لقد تناول فيها جميع المحاور المهمة. وقد شهد له بالعظمة الشرق والغرب. إننا بحاجة إلى أن نذكره بين الحين والآخر، خدمةً للعلم والثقافة، وسيبقى مناراً للأجيال القادمة. لن أذكر لكم تفاصيل البحث لأن الوقت المتاح لي قد انتهى، ومن أراد التفاصيل فليطلع على البحث الذي سيُنشر قريباً".

فصفق له الحاضرون.

دُعي الباحث للمشاركة في مؤتمر عن الشعر والشعراء، فوافق واشترك ببحث عن المتنبي. وبحسب الاتفاق المبرم بينه وبين الطباع طلب منه أن يستبدل كلمة "أفلاطون" بـ "المتنبي"، وكلمة "فيلسوف" بـ "الشاعر"، وكلمة "الفلسفة" بـ "الشعر". وفعلها الطباع فجاء النص كالآتي: "إن المتنبي شاعر عظيم، وقد أثر في الشعر تأثيراً كبيراً. فمن ذا الذي لم يستشهد بأعماله؟ لقد تناول فيها جميع المحاور المهمة. وقد شهد له بالعظمة الشرق والغرب. إننا بحاجة إلى أن نذكره بين الحين والآخر، خدمةً للعلم والثقافة، وسيبقى مناراً للأجيال القادمة. لن أذكر لكم تفاصيل البحث لأن الوقت المتاح لي قد انتهى، ومن أراد التفاصيل فليطلع على البحث الذي سيُنشر قريباً".

فصفق له الجالسون، وسألوه أسئلة عميقة، منها: هل المتنبي شاعر كبير؟ فأجاب إجابة تنمُّ عن تبحرٍ في الشعر: نعم، إنه عظيم.

ثم دُعي إلى مؤتمر علمي متخصص، فلبى الدعوة. وكان قد أقيم في مدينة استقطبت العلم والعلماء وأذهلت العالَم في أمور الفلك والسماء. وقد حضر المؤتمر علماء متبحرون في العناصر الأربعة، ولهم قدرة عجيبة في التفرقة بين الكسوف والخسوف. وقد طلب الباحث من الطباع أن يستبدل كلمة "المتنبي" بـ "نيوتن"، و"الشاعر" بـ "العالم"، و"الشعر" بـ "العلم". فجاءت المقدمة كالآتي: "إن نيوتن عالم عظيم، وقد أثر في العلم تأثيراً كبيراً. فمن ذا الذي لم يستشهد بأعماله؟ لقد تناول فيها جميع المحاور المهمة. وقد شهد له بالعظمة الشرق والغرب. إننا بحاجة إلى أن نذكره بين الحين والآخر، خدمةً للعلم والثقافة، وسيبقى مناراً للأجيال القادمة. لن أذكر لكم تفاصيل البحث لأن الوقت المتاح لي قد انتهى، ومن أراد التفاصيل فليطلع على البحث الذي سيُنشر قريباً". وقد قدم دليلاً جديداً أثبت فيه أن الصوت أسرع من الضوء، فنحن نسمع صوت المولدة أولاً ثم يأتينا الضوء.

وَجَّهت له مؤسسة كنسية دعوة ليقدم محاضرة عن القديس بولس. لم يكن يعرف شيئاً عنه، لكنه يعرف أنه قديس، والقديس صفة جيدة. فطلب من الطباع أن يستبدل كلمة "المتنبي" بـ "بولس"، و"الشاعر" بـ "القديس"، و"الشعر" بـ "الدين". فجاءت المقدمة كالآتي: "إن بولس قديس عظيم، وقد أثر في الدين تأثيراً كبيراً. فمن ذا الذي لم يستشهد بأعماله؟ لقد تناول فيها جميع المحاور المهمة. وقد شهد له بالعظمة الشرق والغرب. إننا بحاجة إلى أن نذكره بين الحين والآخر، خدمةً للدين والثقافة، وسيبقى مناراً للأجيال القادمة. لن أذكر لكم تفاصيل البحث لأن الوقت المتاح لي قد انتهى، ومن أراد التفاصيل فليطلع على البحث الذي سيُنشر قريباً".

صفق له الحاضرون وجاملوه لأنه مدح قديسهم وهو ليس منهم. وأراد أحدهم أن يحرجه بسؤال، لكن صديقه منعه وقال له: اسكتْ، فأنْ يمدحَ القديسَ وهو لا يعرفه خيرٌ من أن يذمه وهو لا يعرفه أيضاً.

اشترك في ندوة موسيقية وكان النص كالآتي بعد تبديل الكلمات: "إن بتهوفن موسيقي عظيم، وقد أثر في الموسيقى تأثيراً كبيراً. فمن ذا الذي لم يستشهد بأعماله؟ لقد تناول فيها جميع المحاور المهمة. وقد شهد له بالعظمة الشرق والغرب. إننا بحاجة إلى أن نذكره بين الحين والآخر، خدمةً للموسيقى والثقافة، وسيبقى مناراً للأجيال القادمة. لن أذكر لكم تفاصيل البحث لأن الوقت المتاح لي قد انتهى، ومن أراد التفاصيل فليطلع على البحث الذي سينشر قريباً".

أعجبته اللعبة، لاسيما أن المؤتمرات والندوات والحلقات الثقافية لا أحدَ يسمع فيها ما يُقال، ولا أحدَ يقرأ المكتوب، ولا أحد يفكر في الجدوى ولا الفائدة ولا ولا ولا... لكنها دائماً ناجحة ومتميزة. كيف لا تكون ناجحة وهي لا تقدم حقيقة علمية ولا تكشف النقاب عن كتاب مغمور، ولا تنقد أحداً؟ المهم فيها أنها منتمية إلى عالم الكم، بعيدة عن عالم الكيف، تضيف عدداً إلى الأعداد في الخطط المستقبلية والسيَر العلمية، فيكتبون أقمنا سبع محاضرات وثمانية مؤتمرات وتسع ندوات وعشر محاضرات... يرفعها الصغير للكبير، والكبير للأكبر.

ازدحمت الطلبات عليه في أسبوع حافل بالأنشطة، واحتار في الكتابة، بين مؤسسة ثقافية وأخرى دينية، وأخرى علمانية. وهو يحاول دائماً أن يرضي الآخرين، ويُسمعهم ما يريدون، حتى ضاع رأيه الحقيقي في المسائل، ذلك إن كان له رأي.

وفي صباح أحد الأيام ذهبَ مسرعاً إلى ملتقى فني، وألقى كلمة عن أهمية الموسيقى، قال فيها: "إن الموسيقى فن من الفنون، ومن لم يستمع إلى الموسيقى فهو ميت. ومن لم يطرب للغناء فهو فاسد الروح بليد. وكل من لم يشارك في إحياء الموسيقى والترويج لها فهو من المتخلفين الضالين الذين لن يرضى عنهم الله والناس أجمعين".

ثم ذهب إلى الطباع مسرعاً قبل حلول العصر لأن لديه محاضرة عن تحريم الموسيقى، فطلب من الطباع أن يحذف "لم". فكان النص الآتي:

"إن الموسيقى فن من الفنون، ومن يستمع إلى الموسيقى فهو ميت. ومن يطرب للغناء فهو فاسد الروح بليد. وكل من يشارك في إحياء الموسيقى والترويج لها فهو من المتخلفين الضالين الذين لن يرضى عنهم الله والناس أجمعين".

كتب عنه أحد الصحفيين إنه متناقض متلون. فرد عليه: إنني لستُ متناقضاً، بل أنا مفكر ديناميكي ديالكتيكي، أقول شيئاً في الصباح، وإذا اكتشفتُ في المساء أنه خطأ غيرتُ رأيي. وهذا يدل على التطور في التفكير وعدم الجمود. أما التلون والتلوين والألوان فأنا أحبها، لأنها تعبر عن الطبيعة أكثر من الأبيض والأسود!

اشتهر أكثر فأكثر، وازدادت الطلبات عليه وارتبك الطباع في "استبدال الكل". وكانت الأمور تجري بسرعة كبيرة أحرجت الطباع في عمله، فقال له الباحث: لا تحتر كثيراً، استعمل الأضداد في الاستبدال، فأينما وردت كلمة "نهنئ" اجعلها "نعزي"، واجعل بدلاً من "السلام" كلمة "الحرب"، و"المؤمن" "الكافر"، و"الحلال" "الحرام" و"الإحياء" "الإماتة" و"الرحمة" "اللعنة"... وهكذا. وأرسِلْ نيابةً عني رسائل تهنئة وتعزية في الصحف والمجلات، فأنت مخول.

تصرف الطباع بحسب الصلاحيات المخولة إليه، وبدأ بتغيير الكلمات بحسب ما يرى. وقد قرأنا في إحدى الصحف في أعلى الصفحة تهنئةً وفي أسفلها تعزية. أما التهنئة فقد جاء فيها: "نهنئكم ونهنئ جميع الأقرباء والأصدقاء والأمة بزواج السيد عبد السلام من ابنة عمه الآنسة مؤمنة، وعسى أن ترزق العائلة بأولاد الحلال الذين يحيون ذكر جدهم المرحوم".

وفي الأسفل قرأنا تعزية لا يمكن السكوت عنها، وهي: "نعزيكم ونعزي جميع الأقرباء والأصدقاء والأمة بزواج السيد عبد الحرب من ابنة عمه الآنسة كافرة، وعسى أن ترزق العائلة بأولاد الحرام الذين يميتون ذكر جدهم الملعون".

احترنا في المقصود من الكلام! لكن حيرتنا لم تدم طويلاً، إذ جاء في اليوم التالي في الجريدة نفسها اعتذار وتوضيح، فالكاتب بريء، لكن هناك "فايروس" قد أصاب الكومبيوتر، فخلط بين التهنئة والتعزية، والسلام والحرب... والحق والباطل، والمقاومة والإرهاب، والحرية والفوضى، والدين والقمع، والهدية والرشوة، والوطنية والخيانة.

فيصل مجهول

(نجم المشرق، العدد (64) السنة السادسة عشرة (4) 2010).

author-img
فيصل غازي مجهول

تعليقات

google-playkhamsatmostaqltradent