بحث الدكتور حسام الآلوسي، في كتابه الجديد "حول العقل والعقلانية العربية" المنشور في دار القدس (2005)، في إشكالية العقلانية في الفكر العربي، وقد انطلق من مسلمات ثلاث ومنها أنه لا توجد عقلانية مطلقة غير منتظمة إلى واقع وغير محددة بزمن وأحداث وظروف.
وأجرى مقارنةً بين عقلانيتنا – كما يسميها - والعقلانية اليونانية التي ليس فيها مشكلة نص مقدس ولا مشكلة توفيق ولا صراع بين نقل وعقل، فالإنسان وحده يشرع لنفسه في كل مجالات الحياة والفكر. لذا فإن نسبة الضغط على العقل تكاد تكون معدومة، مقارنة بما حصل في المسيحية في القرون الوسطى، وربما تكون الحالة قريبة من ذلك مع فارق في الدرجة لا النوع في الفكر الفلسفي الإسلامي إلى اليوم. وشرح طبيعة الطرح الديني والطرح العقلي عموماً.
أعود إلى العقلانية لأقول إن الآلوسي قد
ناقش العقلانية بمظاهرها الثلاثة من كلام وفلسفة وتصوف، ورأى في علم الكلام، على
الرغم من تعدد مذاهب المتكلمين ووجود تباين في موقفهم من النص الديني، أنه لم يكن
يتعدى الدفاع عن العقائد الإيمانية والمسلمات الدينية الكبرى بالأدلة العقلية ولم
تكن مهمته إنشاء فلسفات من مواقع مستقلة تماماً عن النص أو عن المسلمات الدينية. إن
منهجه هو تأويل النص والتمسك بالمسلمات والاجتهاد حول الجزئيات. ولكي يحدد الآلوسي
ما يوجد من عقلانية موجودة عندنا فإنه يبين أنواع العقلانيات على المستوى العقلي
والبشري العام، وقد قسمها على نقاط؛ وهي: عقلانية دينية تجاوزية، دينية مفتوحة أو
مرنة، لاهوتية، علمانية، عقلية خالصة، وأخيراً العقلانية الحقوقية. أما العقلانية
التي يشترطها فهي عقلانية تكاملية تعددية ذات مستويات مختلفة وتخاطب الناس بخطابات
متعددة أيضاً. ويجمل الصعوبات التي تقف أمام العقلانية بنقاط منها المرجعية
الدينية والنص الديني، البنية الفكرية التاريخية كقوة صمود ومحافظة بوجه التغير،
الاستبداد السياسي، الأدلجة غير الموضوعية، صعوبات تتعلق بآلية التواصل الحضاري،
التبعية والعالمية، الشوفينية والتقوقع، الثقافات الموكلة.
يطرح في هذا الكتاب فكرةَ أن بين
الفلسفة والعلم تكاملاً لا تضاداً. ولم يكن غرضه أن يقدم معالجة مستفيضة لمعنى
العلم ومعنى الفلسفة، لكنه ذكر أهم ما يميز العلم من الفلسفة. وما قدمه في هذا
الفصل كلام عام عن العلاقة بين الفلسفة والعلم، وقد ناقش السؤال المتكرر عن وجود
فلسفة أصيلة أو فلاسفة مبدعين في فترة الازدهار الحضاري الإسلامي. لكنه بدايةً يسأل
سؤالاً فيه شيء من الجواب "هل من الصحيح أن تكون أمم بكاملها لها امتداد
تاريخي طويل جداً، وتقلبت في أحوال وظروف عديدة، وعانت تطوراً ونضجاً، هل من
الصحيح أن تكون مثل هذه الأمم بدون تفلسف وفلاسفة؟ وما هي الحيثيات والدواعي
والأسباب الموجبة والفعلية التي قضت بهذا الحكم؟". لم ينفك الباحثون العرب عن
الإجابة عن هذا السؤال، لا بل هو من الأسئلة المتكررة قديماً وحديثاً. ويرى
الآلوسي أنه إذا كان معظم الدارسين يحاولون الإجابة بالنفي أو بالإيجاب بشكل
مباشر، فإنه يعتقد أن كثيراً من الإشكال يمكن أن يزول إذا اتفقنا ابتداءً على أمر
مهم يتعلق "بالتعريف" أعني تحديد معنى عقل فلسفي، فلسفة، فيلسوف، إبداع
فلسفي، وهكذا؛ ذلك أن التعريف يحدد الحكم ويرسم الجواب. وبعد مناقشات طويلة حول
هذا الموضوع يقول "إذا كان ثمة من نتيجة أصل إليها فهي أنني وبحسب الأضواء
أعلاه من جهة التعريف ومن خلال عرض لتاريخ الحركة الفلسفية عندنا وتطورها، ومن
خلال إيراد أهم الاتجاهات وآراء الفرقاء حول أصالتها أو عدم أصالته، أعتقد أن
المبالغة في السلبية وتحطيم الذات هو نفسه نوع من التبعية والانبهار بالآخر إلى حد
الانسحاق".
لا أريد أن أختصر ما جاء في الكتاب بقدر
الإشارة إليه، فقد ناقش فيه مشكلات مهمة مطروحة في الساحة الثقافية العربية
المعاصرة، وما وددت أن أقتطع نصاً من سياقه إلا تنبيهاً. لكن ما وجب التنبيه إليه
أنه قد جاء في الكتاب أخطاء كثيرة جداً في الصفحة الواحدة، وقد تجاوزت كل حد
وأسهمت في تحريف النص تحريفاً كبيراً، وأكثرها طباعية، لكن ما نفعُ أن يعرف اثنان
أو ثلاثة ما كان ينوي الآلوسي قوله وقد طُبع الكتاب بمئات النسخ؟ فكيف يثبت أنه قد
قال "العقل يستطيع" لا "العقل لا يستطيع"؟ وكثيراً ما تجد
"لا" ساقطة من النص أو مضافة إليه. وماذا يقول بعد أن تحول العقل فعلاً
والفعل عقلاً؟ لكنه قد بذل جهداً جهيداً من أجل تصحيح الأخطاء عسى أن يتدارك ما
أفسدته الطباعة في طبعة ثانية.
د. فيصل غازي مجهول
(جريدة الصباح، العدد (561)، السبت 28 أيار 2005)