كنتُ في القطار مع صاحبي، في دولة أجنبية لا نعرف لغة أهلها. ومن المزعجات للأذن والرأس أن لا تفهمَ ما يُقال، أو لا تنتمي لما تسمع، وفي هذه الحال يكون الطنين أجمل من اللغة وأبلغ وأرحم. وكان صاحبي يفرح كلما سمع نباح كلب أو مواء قطة، وأحياناً قليلة نهيق حمار، ويقول كأني أفهم لغة الحيوان أكثر من لغة الإنسان، فأصوات الحيوانات أو لغاتها هي هي نفسها التي عندنا، وأشعر بالألفة معها أكثر. وتحول حديثُنا إلى اللغات والفرق بين لغة الإنسان ولغة الحيوان، ثم قادَنا الحديث عن لغة الحيوان إلى الحيوان نفسه، حتى وصلنا إلى الحمار. فقال لي صاحبي: لماذا يستعمل الناس اسم "الحمار" للذم؟
قلت: هذه قصة طويلة تتعلق بثقافات الناس والدلالات اللغوية والرموز...
وحتى الذين لا يقصدون الذم فإنهم قد يستعملونه بدلالة غير إيجابية مادام الكلام
تابعاً لمنظومة لغوية رمزية اجتماعية نفسية معينة. ففي الهجاء يُستعمل كثير من
أسماء الحيوانات كالغراب والفأر والبوم والكلب والقرد والخفاش والضبع...
قال: لا تعقد المسألة وتُصعِّب
الأمور بهذه الكلمات الآن، وقل لي ما الذي قيل عن الحمير؟ أو ما الذي تقوله أنت؟
قلت: ماذا تريد؟ هل تقصد الحمير
الحمير أم "حمير الإنس"؟ فما أعرفه كثير.
قال: "حمير الإنس"؟!
ما هذا؟ اخلِط لي ما تعرف! سواء كان مزحةً أو حقيقة.
قلت: مهلاً، لا تخلطْ أنت
الأمور، فسخريتي ومزاحي ولهوي جدٌّ أيضاً، وكما قال الجاحظ: "إن المزاحَ جدٌّ
إذا اجتُلبَ ليكون علةً للجِد". والمزاح ليس ضداً للحقيقة، وهل أحدثكَ عن
الجد والهزل والمزاح والسخرية والحقيقة وما بينها من علاقات وروابط؟
قال: كلا، أرجوك ألَّا تفعل..
فأنا أعرف شيئاً من هذا، ولا أريد الآن - في السفر - تعريفات دقيقة.. ولنعُدْ إلى موضوعنا،
بيننا وبين النزول ست محطات سنتوقف فيها، أظنها تكفي للحديث عن ستة حمير.
قلت: سأترك التعريفات الدقيقة.. وأتكلم..
وهذا حظي في السفر! في بلاد الطبيعة والثقافة والجَمال والعلم والحرية وأشياء أخرى
رائعة أتكلم عن الحمير! نعم.. سأتكلم.. حتى
لو كان في طريقنا ستون محطة!
لا أحد يقبل بأن يُطلق عليه اسم "حيوان"، لكنَّ
ما يندرج تحت هذه الكلمة من أنواع الحيوانات يمكن أن يَقبل به، فإذا قلتَ عن شخص إنه "حيوان" فبالتأكيد
سيغضب، وإذا خصصتَ نوع الحيوان فإما أن يغضب أو يفرح بحسب ذلك الحيوان. فمَن مِن
الناس يرفض أن يوصف بأنه أسدٌ أو نمر أو صقر أو نسر أو ذئب، أو أنها رشا أو غزالة
أو حمامة؟ كل ذلك يتعلق باستعمال اللغة من الناحية الاجتماعية. فالقوة للأسد
والمكر للثعلب، والحكمة أو الشؤم للبومة، والغباء أو الصبر أو الحكمة للحمار بحسب
وجهة النظر! ويفرح شخصٌ ولا يفرح آخر إذا سمع أن الجَمال من الجِمال، والأناقة من
الناقة.. إلى آخره من الحيوانات... وعُرِّفَ الإنسان قديماً بأنه حيوان ناطق أو
عاقل، وكانوا يقصدون أنه ينفصل عن الحيوانات بصفة معينة. وفي عالم الثقافة حمير
كثيرة، منها حمير قديمة ومنها جديدة، منها حمار جحا وحمار توفيق الحكيم ولائحة
حقوق الحمار لمدني صالح، وعشرات بل مئات الحمير. والآن.. سأبدأ بالحمار الأول:
الحمار الأول.. حمار طه باقر:
قيل (والعهدة على الراوي الراوي) إن عالم الآثار الكبير
طه باقر كان مع زملائه في موقع التنقيب، وكان معهم حمار، وقد مات هذا الحمار..
فكتب طه باقر إلى دائرته في بغداد يُبلغُهم بأن الحمار قد مات ويريد حماراً آخر.
فأجابته الدائرة بكتاب رسمي بأنه يجب أن يُشكل لجنةً أو مجلساً تحقيقياً عن كيفية
موت الحمار والأسباب. وقد احتار الرجل! فقد أصبحت قضية. وبينما هو في حيرته هذه
جاءه أحد رجال الريف الكرماء ورآه مهموماً فخبره طه باقر بقصة الحمار، فقال له
الرجل: بسيطة.. أنا رأيتُ حماركم، وعندي حمار يُشبهه بالضبط (أخوه)، خُذه هديةً
مني وقل لهم إن الحمار لم يمُت.. بلا كتابنا وكتابكم... فَرِح طه باقر بهذا الحل
وكتب إلى الدائرة، نُعلمكم أن الحمار قد عاد إلى الحياة، ونرجو غلق الملف.
وهكذا حلَّ حمارٌ مكانَ حمار وتخلص من المخاطبات الرسمية
التي لا أول لها ولا آخر. قد تُصرف مئات الأوراق على موت حمار، ليتها كانت رحمةً
به أو حباً له، بل حباً بعرقلة إدارية لا تقدم شيئاً ولا تنفع، وإلا لماذا يكتفون بورقة
واحدة لموت إنسان - شهادة وفاة - حتى لو طلب الناس تحقيقاً في سبب الوفاة؟
الحمار الثاني.. حمار الأمير:
نتكلم كثيراً عن أشخاص ونقول في السياسة لو أن هذا السياسي
تنازل عن الكرسي ولم يتمسك بالمنصب لكان أفضل. ونقول المفروض أن هذا الكاتِب لم
يكتب هذا الكتاب.. ولو أن هذا المؤلف أضاف فصلاً آخر... وفلان لو فعل هذا لكان أنفع
وأحسن. ولو لم يفعل فلانٌ هذا الأمر لسارت الأمور بشكل جيد... وهذا ما يُذكرني
بحكاية تراثية؛ قيل إن أحد الأمراء العرب القدماء وقف على باب طحَّان، فرأى حماراً
يدور بالرحى وفي عنقه "جلجل" أي "جرس"، فقال الأمير للطحان: لِمَ
وضعتَه في عنق الحمار؟ فقال: إذا أدركني نعاسٌ ولم أسمع صوتَ الجرس علمتُ أن
الحمار قد توقفَ فأحثه ليستأنف المسير. فقال الأمير: ومن أدراك؟ فربما وقفَ الحمار
وحرَّك رأسَه فقط هكذا (وحرك الأميرُ رأسه) فتسمع صوت الجرس؟ قال الطحان: ومن أينَ
لي بحمارٍ يكون عقلُه مثل عقل مولاي الأمير؟
فمن أين نأتي بحمير لها عقلٌ سياسي وإداري.. وتفهم في العلم
والاقتصاد والقانون والتربية وأشياء أخرى... فهذه حميرُنا وهذا مستواها وهذا عقلها!!
قد نفرض طبيعة تفكيرنا على الآخر، لكن الآخر له طبيعة تفكير ليس من السهل أن
تتغير، بل لن تتغير إلا بقرار داخلي قلما يحدث، فهو يُفكر هكذا وحسب، يتأثر لحظةً بعد
جهد البرهنة ثم يعود إلى ما كان عليه بعد زوال المؤثر. وكُلَّما قيلَ لي: لِمَ
فعلَ فلانٌ كذا؟ ولماذا فلانٌ لم يفعل هذا الأمر؟ ولو أن فلاناً تصرف هكذا... أتذكر
الحمار وأقول: ومِن أين لي بحمارٍ يكون عقلُه مثل عقلك!... وأضِفْ للحمير عقولاً
وللعقول حميراً واحسبْ وعد واستخرج الناتج...
الحمار الثالث.. حمار الفيلسوف:
سأحكي لك حكايتين عن فيلسوفين لهما علاقة بالحمار (ومعظم
كلامي مقتبس من كتابَي بدوي وعثمان أمين، وهو موجود في أي كتاب يذكرهما). أولهما "بوريدان"
فيلسوفٌ وعالم فرنسي ورئيس جامعة باريس، في القرن الرابع عشر. وعلى الرغم من أهمية
هذا الفيلسوف وجميع إنجازاته فإن اسمه قد اقترن بحماره؛ "حمار بوريدان".
والرجل ليس عنده حمار.. لكنه ليس أكثر من تشبيهٍ استعمله لشرح العلاقة بين العقل
والإرادة. وملخص المثال أن هناك حماراً واقفاً بين كومتينِ من العلف بمسافة
متساوية، ولأن المسافة متساوية فهو لم يقرر أيَتَّجِهُ إلى هذهِ أم تلك؟ وبالنتيجة
ماتَ جوعاً.
ثم قلت: ويُنسب هذا المثال إلى أرسطو أو غيره من الفلاسفة، وقيل
إن بوريدان لم يذكره في مؤلفاته، وقيل إنه شرحه فقط... وأحياناً يوضع الكلب بدل
الحمار... روايات عدة.. كثيرة.. ويمكن أن يكون تعبيراً عن الحيرة تجاه الاحتمالات أو
الخيارات المتساوية! ومهما تكن الحقيقة التاريخية فالنتيجة أن اسم بوريدان قد
اقترن بالحمار، وكثيرٌ منا يعرف حمار بوريدان ولا يعرف الفيلسوف بوريدان، فحمار
بوريدان أشهر من بوريدان نفسه! ولا أدري! لعل هذه الشهرة أفضل وأشرف من غيرها؟!
فأن تُعرف من خلال حمار خيرٌ لك من أن تُعرف من خلال مجرم أو وضيع أو لص أو دجال
أو محتال أو جبان...
قال: ربما!.. ولكن هل حقاً يحتار
الحمار دائماً إذا قدموا له طعاماً أو شراباً؟
قلت: كلا، إنه مثلنا يحتار.. ولا
يحتار. وقديماً قيل إن هناك حماراً وضعوا أمامَه إناءً فيه ماء وآخر فيه خمر، فشرب
الماء وترك الخمر.
قال: لماذا؟
قلت: لأنه حمار.
الحمار الرابع.. الفيلسوف الحمار:
إذا كان بوريدان قد اقترن اسمه بالحمار، فإن هناك فيلسوفاً
لُقب بالحمار، وهو "كليانتس" الرواقي، ولد كليانتس سنة 331 ق. م. في
مدينة أسوس؛ وكان قبل اشتغاله بالفلسفة مصارعاً؛ ويقال إنه حينما قدم إلى أثينا لم
يكن يملك من المال إلا أربع دراخمات، لكن شدة الفقر لم تكن تصرف ذلك المصارع عن
طلب المعرفة والانكباب على الفلسفة... واتفقت جميع الروايات على أن كليانتس امتاز
بصفات الهمة العالية والإرادة التي لا تقهر والثبات والجلد الذي لا يكل: فلم يَحُل
بُطء فَهمِهِ ولا شدة فقرهِ دون أن يتابع الدرس وتحصيل العلم. ولما بدا لكليانتس
أن يحضر دروس "زينون" (مؤسس الفلسفة الرواقية) لم يكن يملك من المال
شيئاً، فاضطرَّ أن يقضي ساعات الليل في أشق الأعمال لكي يكسب ما يدفع به رسوم
التعليم. يُروى عنه أنه كان يحمل الماء لسقاية بعض الحدائق، وكان يعجن عند إحدى
الخبازات. وأُعجِب زينون بفضائله وجدهِ في العمل، فعهد إليه عند وفاته بأن يخلفه
في إدارة المدرسة الرواقية. ولم يكن له من اللباقة والمهارة في الجدل ما يمكنه من
إفحام الخصوم، بل يظهر أن تفكيره كان بطيئاً وحجته غير بارعة فكان عرضة لسخرية
المتشككين. وكانوا يطلقون عليه اسم "الحمار"، ولكنه لم يكن يغضب لذلك
المزاح الثقيل، بل كان يردُّ قائلاً إنه وحده أقدر على حمل بردعة زينون. ألَّفَ
خمسينَ كتاباً تقريباً، لم يبقَ منها شيء إلا مقتطفات صغيرة، ومنها قصيدة لم يبق
منها غير أربعين بيتاً.
وهذا كما ترى من أثقف الحمير، وهو لا يزعجه أن يُطلق
عليه هذا الاسم، ويتقبل الذم على أنه مدح. إن كثيراً من الأسماء والصفات والألقاب
التي يطلقها الناس على الناس تصبح عند بعضهم عقدة نفسية، ومزحةً عند آخرين، ربما
مزحة تعليمية أو فيها شيء من التواضع وضرب المثل السيء على النفس لا على الغير.
ومن كان متكئاً على ثقافةٍ عالية وخبرة عميقة، ومعرفة لطبائع الأشياء واستيعاب كبير
لحياته وفهمٍ دقيق لسلوك الآخرين، وعلى تواضعٍ وصدقٍ وصبر، فإن أية صفة سيئة تُطلق
عليه لن تؤثر فيه سلباً بل ستكون له ربحاً.
القسم الثاني
الحمار الخامس.. حمار عمر الخيام:
أحياناً أشعرُ بالضجر والملل من الطريقة شبه السقراطية
التي أسير عليها، أو أسلوب ادعاء الجهل إذا كنتُ بين جهلاء... قال العظيم أبو
العلاء المعري:
ولما رأيتُ الجهلَ في الناسِ فاشِياً تجاهلتُ
حتى ظُنَّ أني جاهِلُ
وقال عمر الخيام:
كُن حماراً في مَعشرٍ جُهلاء أيقنوا
أنهم أُولو العرفانِ
قال: إذن، هي نصيحة.
قلت: هذه نصيحة لا نهاية لها
مادام في الأرض صدقٌ وثقافةٌ ومعاناة.. وجهلة متسلطون مُفسدون محظوظون غالبون..
وأذكياء أتقياء أنقياء محسودون مغلوبون.. طموحون فعالون جادُّون مخلصون انتبهوا
فإذا هم محبطون يائسون من علمٍ ومعرفة وتفوق. ولْنعُد إلى الخيَّام، هل سمعتَ بالتناسخ؟
تناسخ الأرواح؟
قال: نعم، سمعتُ شيئاً عن النسخ
والمسخ... ولا أعرف التفاصيل.
قلت: لا تفاصيلَ الآن، فهذه قصة
طويلة.. وسأروي لك روايةً عن عمر الخيام، لكن، ضع بالحسبان أنه قد قيلَ عن هذه
الرواية إنها مختلَقة أو إنها للفكاهة أو إن دلالتها صوفية... فافهمْهما مثلما
تشاء! ولن أفرض عليك فهمي لها.
قال: وما شأني بما يُقال أو بالتحقق
من الروايات؟ إن ما سمعتُه عن أشخاصٍ أحياء أعرفهم حقَّ المعرفة جعلني أفقد الثقةَ
بكلِّ ما أسمعه عن أموات لا أعرفهم في زمن مضى. فقليلٌ من التاريخِ علم وحقائق
وتحقيق وتدقيق، وكثيرٌ منه رغبةٌ وخيال وتأويل وإسقاط وقصة وتوظيف واستغلال.
والقليل للقلة والكثير للكثرة. وحتى أقرب المقربين لشخصٍ قد لا يستطيع وصف ذلك
الشخص ولا يعرفه ولا يفهمه إلا إذا كان ذا عقل كبير وحسٍّ نقدي ومعرفة واسعة. ومن
أين لي بـ ... بشخصٍ له هذه الصفات!؟
قلت: هذه أول مرة تقول فيها رأياً
جيداً! نعم.. سأحكي لك قصة عمر الخيام مع الحمار. قيل: إن هناك مدرسة قديمة في
نيسابور كانت بحاجة إلى إصلاح وترميم، وكان عمر الخيام يتمشى في المدرسة مع
تلاميذه، فدخلت مجموعة من الحمير تحمل مواد الترميم والبناء، لكنَّ حماراً من
الحمير وقف في باب المدرسة ورفضَ الدخول إليها. فلما رأى الخيام هذا الحمار ابتسمَ
واتجهَ نحوه، وقرأ في أذنه قصيدة، وهي بالفارسية، ومعناها - مستخلصاً من الترجمات
- هو الآتي:
يا أيها الذي ذهب وعاد مرة أخرى.. ضاع اسمُك بين الأسماء..
واجتمعت أظفارك في حوافرك.. وصارت لحيتك في عجزك ذيلاً!..
وعندما سمع الحمار هذه القصيدة دخلَ إلى المدرسة. فسأل
التلاميذُ مُعلمَهم عن سبب دخول الحمار. فقال: إن الروح التي تحيا داخل هذا الحمار
كانت روح أستاذ في هذه المدرسة، وقد عزَّ عليه أن يعود إلى المدرسة وهو حمار، ولما
عرف أن معلماً من بين زملائه القدماء قد عرفه، دخل إليها.
ثم قلت: إن أرواح الناس
بحسب التناسخ تحل في حيوان أو نبات أو حجر... كل بحسب عمله وسلوكه، حتى تتطهر...
قال: هل يمكن أن يخرج إنسانٌ من
الحياة ملكاً أو رئيساً أو وزيراً أو مليونيراً ويعود إليها حماراً أو حصاناً أو
حشرة أو ...؟
قلت: بالتناسخ، وغير التناسخ..
كل شيء ممكن مادام هناك من يقبل ويؤمن بهذا الإمكان.
قال: يا لحميرك المثقفة! نكاد
نصل إلى النهاية.. فهل تسمح لي بأن أحكي لك قصة حمار قريب مما أعرفه عن صفات
الحمير؟ فالحمار عندي حمارٌ.. وهذا الحمار خرجَ حماراً وعاد حماراً بلا تناسخ.
قلت: بالتأكيد أحب أن أسمع منك.
الحمار السادس.. الحمار العائد:
قال: عندما أتجول في الدول أسمع
الناس يكلمون حيواناتهم بلغاتهم، فالفرنسي يتكلم مع قطته باللغة الفرنسية،
والإنجليزي يتكلم مع حصانه بالإنجليزية، والألماني يتكلم مع حماره بالألمانية، أما
جواب تلك الحيوانات لهم فلن يكون بالفرنسية أو الإنجليزية أو الألمانية... بل
سيكون مواء أو نباحاً أو نهيقاً أو صهيلاً... فالحمار الألماني يسمع ويفهم اللغة
الألمانية لكنه يجيب بلغة الحمير. وهذا ما ذكَّرَني بشخصٍ غابَ عنا كثيراً واغترب ثم
عاد.. وقد فرحتُ جداً بعودته من الغربة سالماً. ظننتُ أنه عندما سافر إلى أوربا
سيصبح أوربي الثقافة والعلم والطباع والسلوك، فينقل لنا تجربة متحضرة متقدمة
متطورة متمدنة نافعة منظمة، كما فعلها عشرات بل مئات الأشخاص الذين قرأنا لهم أو
سمعنا عنهم أو درسنا على أيدي بعضهم. لكنه خذلني مع الأسف، بل خذل محبيه ومنتظريه
كلهم.
قلت: أخشى أن يكون كالحمار الذي
ذهبَ يطلب قرنينِ فعاد بلا أذنين.
قال: بل أسوأ.. كان بعضُنا يتكلم
معه بالألمانية فيجيب نهيقاً وكان آخرون يسألونه عن الثقافة الفرنسية فيجيب
بالنهيق أيضاً. ومع ذلك كنتُ أدافعُ عنه وألتمس له العذر وأقول لهم إن نهيقه تَمسُّكٌ
بالمبدأ واللغة والأصالة! لكن تبيَّنَ لي أن الأمر ليس كذلك. خابَ أملي به لأني
ظننتُ أنه سيأتينا بما ليس عندنا، أو ينفعنا بما خبر وجرب، فإذا به ينهق.. وينهق..
ثم ينهق.. لا، بل يُحرجنا ويُجبرنا على سماع النهيق كأننا لم نسمع نهيقاً هنا!
قلت: لكن، ليس هكذا كل مَن ذهبَ
وعاد.
قال: وهل قلتُ "كل"؟
ألَمْ تسمعني وأنا أذكر عشرات أو مئات... والآن أضيف لك آلافاً غيره؟ هل بدأتَ
تفقد تركيزك ودقتك؟
قلتُ: صحيح، وعذراً للمقاطعة،
أكمل حديثك.
قال: لقد نسيتُ أن الديك الفصيح
من البيضة يصيح، ونسيتُ أن الجحش عندما يكبر يصبح حماراً.. أي أن الحمار الصغير
يصبح حماراً كبيراً لا حصاناً كبيراً، فمستقبل الجحش حمار.. ومستقبل المهر أن يكون
حصاناً، ومستقبل الجرو أن يصبح كلباً... ألا كم كرهتُ فكرة ثبات الأنواع هذه!
وفكرة الحكم على المستقبل هكذا! لأني آمنتُ بفكرة ودافعتُ عنها، فكرة أن الإنسان
يصنع الشيء الكثير من شخصيته، ويعتز بما صنع، وهو قادر على تغيير نفسه، ويكتسب ولا
يتكئ على ما هو موروث فقط... حتى هذه الفكرة جاء من يخربها... لقد نسيتُ أيضاً أن
هذا ينطبق على أفراد أو على بعض الناس، ونسيتُ أيضاً أن أوربا لا تعلِّم إلا مَن
يريد التعلم، ولا تُغيِّر إلا من يريد أن يتغير، فأوربا – كالخمر – تَزيدُ الحكيمَ
حكمةً والسفيهَ سفاهةً... لكنَّ عذري أن فرحةَ المنتظِر المتشوق الناظر المتلهف
للتغيير والتطوير والتجديد الآتي من الغرب أنسَتني أشياء وأشياء، وأعادتني إلى
أحكام وأقوال وأمثال قديمة. حلمنا به أن يأتي متسلحاً بعلمٍ ومعرفة فيعلِّم الجاهل
وينصر البائس المظلوم، فإذا به جاء ليرفس المتعلم والمثقف وينصر المتخلف السارق
المحتال... كان جحشاً لا يقوى ظهره على حمل ظالم قديم، فلما أصبح حماراً صار ظهره
قادراً على حمل ظالم جديد، ولم يفُت الأوان.. فالحمل خفيف و"الكروة دبل".
هذا الذي أتكلم عنه ذهبَ حماراً وعاد حماراً.. وهذا أمرٌ
مفرحٌ وما كنتُ أريد أكثر منه، فليكُن حماراً والحمار الجيد خيرٌ من الحصان الرديء،
فإذا لم يكتسب أفكاراً وعادات جديدة جيدة فعلى الأقل يرجع كما كان.. حماراً بسيطاً
أصيلاً ودوداً صبوراً متواضعاً محبوباً شريفاً. لكنه مع الأسف ليس حماراً أصيلاً
ولم يحافظ على أخلاق الحمير وعاداتها. ليتَه أصبح حماراً وحشياً على الأقل نحن
نعرف أن الحمار الوحشي وحشيٌّ فلا نقترب منه ولا نعاشره، ونعرف سلوكه! أما هذا فهوَ
هو حمارُنا، نعم، حمارُنا بلا خطوط سوداء أو بيضاء..
لقد حرن.. حرن في مكان وزمان وفكرة، ولم يُزحزحه عن
مكانه ألفُ مفكرٍ وفيلسوف وعالم وفنان وأديب... ولم يتعلم شيئاً ما عدا حركات
جديدة في الرفس، لم يسمحوا له هناك باستعمالها فأتى واستعملها هنا وطبقها علينا.
تعلمها من أمثاله في الدائرة الضيقة التي يعيش فيها!.. كانوا هناك يقرأون كتباً تغنيهم
عن كتب، ومن أهم الكتب التي قرأها كتابٌ عنوانه "رفسة الحمار في الليل قبل
النهار"، والكتاب الآخر "الشهيق من أجل النهيق" هذا الكتاب الذي
حاول أن يطبق ما جاء فيه هناك فلم يستطع.. فهناك يوفرون له العلف مجاناً لكنهم لا
يسمحون له بإزعاج الآخرين بالنهيق، فزئير القانون لا يسمح له بالنهيق في أي وقت
يشاء، أما هنا فالنهيق مسموحٌ به في أي وقت يشاء، غيرُ ممنوع "والعتب
مرفوع"، إنها الحرية.. ومن يعترض تأتِهِ الرفسة لا محالة. وقلتُ إنه ليس
حماراً أصيلاً لأنه حقودٌ حسود معقد متكبر مغرور مدَّعٍ كذاب سارق... وهذه - كما
ترى – صفات مكتسبة للحمير... حتى الحمير المحلية غضبت عليه لأنه أساء إلى سمعتها وعاداتها
وصفاتها الموروثة، وجعلها حائرةً متعجبة مصدومة متسائلة: أَمُتعصِّبٌ متخلف إرهابي
منغلق لص ويعيش في الخارج ويأتي منه؟! كان ملا عبود الكرخي يقول: "يصير من
لندن تجي مـﭼاريَّه؟" ويعدُّها من "المحالات"، لكنها تحققت، وجاءت
المـﭼارية والحمير معاً، أصليين وغير أصليين، من لندن ومن باريس وبرلين ومن كل
عواصم ومدن الدنيا. والوقت لا يكفيني كي أتكلم عن قصته مع الفرس الشقراء التي
تزوجها هناك فتركها وجلب البغل معه يعلمه أصول العمل وطرائق الحمل والتفريغ من
الداخل إلى الخارج.
الحمار السابع.. ؟؟؟:
قال لي: لقد أخذتُ منك
حماراً، وقد نزلنا هنا وعندنا وقت كاف، فهل من حمارٍ تعويضي؟ وليكن السابع.
قلت: موجود، لكني سأؤجل الكلام
عنه الآن، لأني أخاف منه، وأخاف عليك منه أيضاً، لأن رفسته قاضية، عابرة للقارات
والمحيطات، ورفسته تشمل المتكلم والمستمع معاً، فلن يشفع للمستمع أنه مستمعٌ وحسب،
ولن يُكتب في شهادة وفاتك أن سبب الوفاة "رفسة حمار" كما لم يُكتب في
شهادة وفاة كل الذين رفسهم سابقاً. ثم أن هذا الحمار لا يأتي الكلام عنه على هامش
الرحلة أو في نهايتها، بل هو رحلةٌ بأكملها. إن شئتَ أحدثك عنه في طريق العودة، لكن،
سأخصص له جميع المحطات وزيادة.
(1) (نجم المشرق، العدد (89) السنة الثالثة والعشرون (1) 2017).
(2) (نجم المشرق، العدد (90) السنة الثالثة والعشرون (2) 2017).