ما إن تقدمتُ خطوة إلى الأمام حتى سمعتُ صوت العريف يناديني من الزمن البعيد: "كل قف، إلى الوراء دُر، عادةً سر". أوامر عسكرية، كنتُ أسمعُها في الفصيل وأنفذ، فالعسكرية تعلِّمنا الطاعة والتنفيذ، وتمنعنا من المناقشة والتفكير. وانتهت العسكرية وأوامرها، وحصلتُ على صك الغفران.. ختم في صفحة التسريح في دفتر الخدمة العسكرية. لقد قُتل آلاف الناس قبل أن يروا هذا الختم على تلك الصفحة. ولكن، "إلى الوراء دُر" لم تنتهِ بعد. وصار العريف عرفاء يلبسون أزياء مختلفة من العقال والعباءة إلى "القاط والرباط". وأفضلهم العريف العسكري الأصلي لأنه متسق مع مهنته.
كان بي شوق إلى الحضارات القديمة لاسيما حضارات بلادي. سرتُ نحوها بقلبي وعقلي معاً، تدفعني رغبة شديدة في معرفة أسرارها، وانحنيتُ لها إجلالاً وإكباراً، وشعرت بالسعادة لأني ولدت ونشأت على هذه الأرض التي يُذكرني كل جزء فيها بحضارة عظيمة، وفرحتُ كلما أشاد بعظمتها علماء كبار، وكلما كشفوا لنا عن كنز من كنوزها الفكرية والمادية. فاستندتُ إليها ونظرت إلى الأمام. لكن الفرحة لم تدم طويلاً، إذ جاءني أمر "إلى الوراء دُر"... وانظر إلى الحضارات القديمة كما نشاء نحن. تغنَّ بأمجادها، وقل كانوا أول... كانوا أفضل... أقدم... فهمتُ هذا وأطعتُ، لأني كنتُ أعرف، بلا أمرٍ، أنها أول وأقدم... لكني كنتُ أريد أن أنظر إلى الحاضر والمستقبل أيضاً. فقالوا: مَن لا ماضي له فلا مستقبلَ له. سمعتُ ووافقتُ، لكني رأيتُ أن مَن لا ماضي له قد خَلقَ حاضراً قوياً سيكون في المستقبل ماضياً مجيداً يتباهى به أحفاده.قالوا:
أما يكفيك أنك من أحفاد بُناة الحضارة؟ يجب أن تعشق الحضارات القديمة لأننا نريد
أن تعشقها بمواصفاتنا، وأن تنظر إليها بعيوننا. ثم قرروا إعادة كتابة التاريخ،
وعليَّ أن أقرأ وأحفظ ما يكتبون وحسب. فأصبحت الإنجازاتُ العظيمة شعاراتٍ عقيمة
يرددها كلُّ من كان بعيداً عن الحضارة والثقافة. واحتَكَروا التاريخ والحضارات، وما
إن احتكروها حتى تركتُها. أَحُبٌّ وعِشقٌ وبحثٌ بأوامر وتعليمات؟! أَتباهٍ بما فعل
الأجداد وكسل عن فعل شيء؟
"إلى
الوراء دُر"... إلى العصر الديني والسياسي الذهبي، عصر القمم الواقفة بشموخٍ خلفَ
ظهورنا. فخيرُ الناس مَن نظرَ إلى الوراء، أما المستقبل فلا يدل إلا على امتلاء
العالم ظلماً، والاقتراب من الخراب ونهاية العالم. ولا تفكر بمستقبل الدنيا، فالمستقبل
الوحيد هو الآخرة.
"سلام
خُذ" ... إلى النظام العشائري المجيد. وكأن لم يكن للعالم كله قبائل ولا
عشائر ولا عادات تناسب وضعه الريفي القروي! عليك أن تحافظ على تلك العادات
والتقاليد، ولا أدري أية عادات وأية تقاليد؟ أتلك التي اعتدنا عليها قبل عشر سنوات
أم خمسين أم مئة أم مليون؟ لا.. بل عليك أن تسعى إلى تطويرها. عليك، في حفل
الزفاف، أن تسير بموكب الزفة ببطء شديد وتسد الشوارع، فلا تسمح للسيارات أن تخترقه
ولو كانت عندهم حالة طارئة، لأن فرحنا لا يتم إلا بإيذاء الآخرين ومخالفة القوانين.
وفي الحزن عليك أن تغلق الشوارع بشتى أنواع الغلق، ولا تنسَ أن تتباهى بعدد
المعزين وعدد السيارات الحديثة التي تغلق الشوارع القريبة والبعيدة، وعدد الخراف
التي تُذبح من أجل إطعام الشبعان. فأنتَ من أمة تطعم الناس في المناسبات ليومٍ
واحد، وتتركهم في باقي السنة بلا طعام. وعليك في مواكب الأفراح والأحزان أن تتلفت
يميناً وشمالاً وتأمر وتنهى بسبابتك، وتنظر في عيون الناس نظرةَ تحدٍّ لتقرأ
تعاطفها أو رفضها؛ لأنك متفضل على الناس جميعاً، وعليهم أن يطيعوا، لأنك تحتفل
احتفالاً تباركه السماء والأرض.
"كل
قف، إلى الأمام سر".. يا للفرحة.. "إلى الأمام".. وقفة قصيرة،
وبعدها سِر إلى الأمام.. إلى التطور والتكنولوجيا الحديثة. عليك أن تنتقي التطور
الذي يتناسب وعاداتك وأعرافك. عليك أن تُعلي من أصوات المسجلات والسماعات ومكبرات
الصوت كي يسمع الأحياء والأموات في قبورهم ما تريد قوله، وأن تهمل التلسكوب إذا كان
فيه حسم لخلاف بين الناس في بدء يوم جديد.. فالعين المجردة خيرٌ من الأذن المجردة.
"إلى
الوراء دُر"... (باللغة الفرنسية).. إلى ساعة هارون الرشيد التي أهداها للملك
شارلمان، ومع الأسف الشديد قد تعطل مصنع الرشيد لصناعة الساعات اليدوية والجدارية بعد
أن صنع ساعة واحدة فقط كانت من حظ شارلمان. ولم يستطع البرامكة أن يشتروا منه
الساعات ليتبرمكوا بها على الناس، وفرِحَ الفيلسوفُ الكندي لتعطل المصنع لأنه بخل
على نفسه بشراء ساعة جديدة. ثم بيع المصنع إلى سويسرا بخسارة كبيرة. أما الحاضر
فلا يحتاج إلى ساعة، فنحن أحرار متسامحون لا يُقيدنا وقت، وهذا ما يفعله كبارنا.
فإذا كان موعد افتتاح أو لقاء أو اجتماع في الساعة التاسعة فلا بأس أن يكون في
الحادية عشرة، وهل نسمح لهذه الدقائق اللعينة أن تفرق شملنا؟ ومن عاداتنا أن يأتي
المسؤول متأخراً، كبطلٍ في مسرحية أو فيلم لا يظهر في اللقطة الأولى، كي يضمن
الحضور واللهفة والتصفيق.
"إلى
الوراء دُر"... (بالإنجليزية والألمانية).. لأنهم يحبون أن يروك بزيٍّ قديم
وفكر قديم، كي تكون موضوعاً لبحثٍ اجتماعي أو انثروبولوجي رصين. فأنتَ مهم لأنك
تفرق بين الناقة والبعير، وتستطيع السير حافياً على رمال الصحراء.
"تنكب
سلاح".. فتنكبتُ السلاح، ولا أدري مَن أقاتل ولماذا؟ فخضت معارك لا أعرف
أسبابها ولا نتائجها.
"جنبك
سلاح"... وضعتُه جانباً، ولم يكن بإمكاني أن أقول لهم: ألم يكن من الأفضل أن
أضعه جانباً من البداية؟ ولماذا تُجبرون مَن لا يُحب القتالَ على القتال؟ وانقلبت
الدنيا لأني قلتُ "لماذا"، فشكلوا مجلساً تحقيقياً لأني نطقتُ كلمة
"لماذا". وعوقبتُ، ونصحني بعضُهم بأن لا أنطق هذه الكلمة مرةً أخرى.
ونفذتُ، لكني من محبي الفلسفة، وكلمة "لماذا" تسير بدمي. قالوا: ما لنا
وللفلسفة؟ إنها نبتة غربية لا تعيش في بلادنا، وعندنا ما يكفي من النباتات. فلا
تزرع في بلاد "الأمر والنهي والمعجزات" نبتةَ "السؤال"، لأنك
من بلاد "الجواب".
ونظرتُ
خلسةً إلى الأمام، لأرى المعجزات الحديثة: الطعام، الضمان الصحي، السكن، العمل،
حرية الرأي، حرية اختيار الدين، حرية الملبس... فسمعتُ صوتاً قوياً: انتبه، ولا
تخالفْ، إلى الوراء دُر.. إلى المعجزات القديمة فقط.
"يميناً..
أنظر".. إلى بلاد الروح، ولا تلتفت إلى بلاد المادة. فالشرق بلاد الروح،
والغرب بلاد المادة. أما كيف؟ فلا أدري.. ولا تَسَل كيف أنتج الغرب روائع
المسرحيات والقصص والروايات والسمفونيات والفلسفات والفنون التشكيلية والأفلام؟ واقتنعتُ
بأن الشرقَ بلاد الروح، ولكن، بالعامية: "روح ولا تجي". ثم قارنت بين
بلاد المادة وبلاد الروح.. بين السمفونية والكونشرتو والأوبرا والباليه والربابة
والجوبية والسويحلي... وانتهيت إلى ما انتهيت إليه..
"استرِح"...
فاسترحت، ومدة الاستراحة قصيرة جداً. وعلى الرغم من كراهيتي لصفة المهاجر أو
اللاجئ، فقد دفعني إليها يأس من تغير الحال، وإلا فإن حبي لوطني غير خاضع لاختبار أو
مساومة، أنا أحبه لأنني أحبه وحسب، بلا إثبات أو تفسير. بدأت البحث في استراحتي
عمن ينجيني من بلدان الحضارات وبلدان الروح، فسعيتُ للحصول على جنسية أجنبية
تنفعني في السراء والضراء، فأكون حراً طليقاً أسافر أنى شئتُ بلا مقابلة في
السفارات ولا تعطيل في المطارات، أُمجِّد الحضارات القديمة بشرط أن أعيش في الحضارات
الجديدة، وأجد جذوراً لحقوق الإنسان في بلادي بلاد الروح، على أن أنعم بحقوق الحيوان
في بلاد المادة. لكن فترة الاستراحة قد انتهت، ولم أحصل على شيء. وفي الاستراحة
الثانية كنتُ أريد الحصول على فيزا سياحة لأستريح كما يستريح أي سائح في العالم، وقد
أقنعتهم بالحجة والدليل القاطع أني ابن جلجامش وجيران أسد بابل وابن عم الثور
المجنح وأسكن قرب الجنائن المعلقة... كلها لم تنفع. فقلتُ أنا ابن النفط والبنزين
أنا ابن النهرين والزراعة أنا ابن الذي نظر الأعمى إلى أدبه... لم تنفع أيضاً. فعدتُ
إلى بلاد الروح أستمتع بسفرات سياحية علمية لزيارة القبور.
"ثابت..".
ثَبتُّ في مكاني، وكان الثبات عندي يعني الصدق والحب والإخلاص... لكنهم أرادوا
بالثبات ألا أطمح بالمسير إلى الأمام ولا أتلفت يميناً أو يساراً. وعندما قالوا:
"إلى الوراء دُر"، قلتُ: كلا. فثبتُ في مكاني وأعجبني الثبات واعتدته،
فلم أسر إلى الأمام ولم أرجع إلى الخلف.
"إلى
الوراء دُر" يرضَ عنك الغرب قبل الشرق، والأقرباء والعائلة، يدعم مشاريعك كبارٌ
في بلدان الروح والمادة، تعش سعيداً في الدنيا والآخرة.
فيصل مجهول
(نجم المشرق، العدد (62)، 2010).