لا شيءَ يسلّيه في طريقه الطويل غير الاستماع إلى راديو السيارة، والراديو كالقدَر يختار لك ما يشاء ويفاجئك بما لا تتوقع. كان يستمع إلى أغنية وديع الصافي "الحب هلحرفين مُش أكتر..."، فأعجبته جداً. وبما أنه كان رئيسَ مجموعة كبيرة من المؤمنين فقد كان يحاول دائماً أن يوظِّف كلَّ ما يسمعه أو يراه في خدمة هذه المجموعة التي هو منها وهي منه. قال لكاتبه الأمين وصاحبه المخلص: لماذا نأتي بأمثلة من الماضي فقط؟ لِمَ نرددُ أقوال الحكماء القدماء؟ لمَ لا نستعين بالفن والأغاني الشعبية لتنبيه الناس ووعظهم؟
فهمَ الكاتبُ
فكرةَ الرئيس وأعجبته، وقال له: سيدي، هذه مسألة مهمة، وكم أحببتُ أن نستعين
بأغنيات أخرى تنفعنا في وعظ الناس. فقال له الرئيس: نعم، في المستقبل قد نفعلها،
فنحن مع كل شيء نافع. فلتكنْ كلماتُ هذه الأغنية مدخلاً غير تقليدي لتنبيه الناس
الى ما في الحب من عظمة. فأمره بأن يُعمم كتاباً على جميع ممثليه وأن يختصره قدر
الإمكان. وكان يطمئن الى كاتبه ويثق به ثقةً زادتها الأيامُ والسنوات قوةً.
فالرئيس يُخبره بالفكرة وهو يصوغها صياغة جميلة دقيقة لا تحتاج الى مراجعة.
عندما كان
الكاتب يكتب كان يعيش في جو هذه الأغنية وأغنيات أخرى لوديع الصافي ”طير الطاير“
و”طير يا عصفور“...، حتى طار من عقله اسم المغني فلم يكتبه. وكان فصيحَ اللسان لا
يُحب العامية فحوَّل الكلمات من العامية الى الفصحى، فكتب بعد المقدمة الرسمية
المعتادة: "الحب.. هذانِ الحرفان لا أكثر.." أرجو أن تكون مدخلاً
لمحاضراتكم القادمة... وختمها بخاتمة رسمية جميلة دقيقة. ثم نسخَ نسخاً وأرسلها
لجميع ممثلي الرئيس.
وصل البريد الى
ممثل الرئيس في منطقة شمالية نائية، وقد استغرب الرجل من هذا الكلام! وأراد أن
يستفسر من صاحبه في المنطقة الغربية، لكنه قال: هل يكون صاحبي أكثر فهماً مني
لمقاصد الرئيس؟ أنا أقربُ إلى الرئيس منه، وأخشى أن يستغلَّ عدم فهمي في أمور
أخرى. لن أسأله. ها... لقد فهمتُ... إن رئيسنا عميقُ التفكير وربما أراد أن يختبر
فهمنها لكتابه. إنها مسألة واضحة، بل هو يقصدني أنا بالذات. إنه يعرف أنني مسؤول
عن مجموعة من القرى، ونحن الآن في موسم الحصاد، ومعظم مشكلات أهل القرى تخص
الزراعة والحبوب... ما أعظم أهدافه وجمله المختصرة! إنها الحبوب، فيها تكمن
حياتنا. لقد جاءت هذه الإشارة في مكانها. وسيطرت عليه فكرة الحبوب، فقرأ الجملة، "الحَب
هذان الحرفان.." بفتح الحاء لا بضمها.
فقال في محاضرته
أمام المجتمعين: ما أصدق رئيسنا الأكبر، إن الحَب يتكون من حرفين، إنها كلمة صغيرة
معناها كبير، فالحَب مهم جداً في الحياة. وضربَ لهم أمثلةً عدة على فوائد الحبوب،
فشعوب العالم تعيش على حبوب الحنطة، وذكَّرهم بفوائد الشعير أيضاً. مَن مِنَّا
يستغني عن "الكرزات"، سواء أكانت للتسلية أو للنفع الغذائي؟ ومِن الحبوب
الطبيعية اشتُق اسم الحبوب التي تُستعمل للعلاج، هل يخلو بيتٌ منها؟ وهل يمكننا
علاج المريض من دون استعمالها؟ فتأملوا حكمة سيدنا الأعلى عندما اختار هذه الكلمات
مدخلاً للمحاضرة.
ولأنه رجلٌ
مهمٌّ محترم وفيه شيء من القدسية، تبرع له كثير من الناس بجزء من المحصول المبارك،
وهو بدوره ساعدَ المحتاجين.
أما ممثلُه في
المنطقة الجنوبية، فقد قرأها: "الحِب" بكسر الحاء. وقال: ما أعظم سيدنا
لأنه اختار الحِب، هذه الكلمة التي تعني وعاء الماء التقليدي المستعمل عندنا. ومن
الماء يُخلق كلُّ شيء. مَن نحن بلا ماء؟ ما الإنسان بلا ماء؟ يا لحكمته عندما
اختار هذه الكلمة لينبهنا إلى نعمة الماء، ويذكرنا بكل عطشان!
واستطاع أن
يؤثر فيهم بكلمته، ثم جمع مبلغاً أنشأ به مشروعاً جديداً لتنقية المياه.
وسقطت نقاطُ
حبر من جهاز الاستنساخ على الكلمات، فقرأ ممثلُه في المنطقة الغربية "الجُب"
بدلاً من "الحب". والجب يعني البئر. وقد جعل خطبته عن الآبار، فما مصيرُ
البدو والرعاة بلا آبار؟ إن الآبار حياة للرعاة، منها يشربون وحولها يجتمعون
ويتناقلون الأحاديث...
ولن أحدثك عن
فهم ممثله في المنطقة الشرقية، إذ إنه قد ابتعد عن الأصل أكثر فأكثر.
والتقى أهل
الجنوب بأهل الشمال، والشرق بالغرب، فإذا بأسئلة تُثار عن حقيقة هذه الكلمات التي
لا تتشابه، فمن هو المُصيب ومن المخطئ؟ وكادت تحدث فتنةٌ بين الجميع لولا أن
تداركها الرئيس. فقد وجَّه كتاب شكر إلى جميع ممثليه، لأنهم أحسنوا الفهم وعرفوا
المقاصد.
وفي يومٍ اجتمع
الرئيس بممثليه، فتكلموا عن الكلمات التي ألقوها وعن حكمة سيدهم، وعن المشاريع
المهمة التي تحققت. وكان الكاتب معهم، فقال كلمة مؤدبة من باب التنبيه: "قد
يكون مقصد الرئيس أغنية وديع الصافي". فنظر الرئيس إليه نظرة عتاب، ونظر
الممثلون بعضهم الى بعض بتعجب! وخافوا من أن يكون كلام هذا الرجل الخرِِف حقيقة.
لكنهم كانوا مطمئنين، فالرئيس قد شكرهم سابقاً، وهو لم يُعلِّق على كلام كاتبه،
وهو لا يخطئ وهم يستمدون عدم الخطأ منه، فهم إذن لا يخطئون.
ثم أقال
الرئيسُ كاتبَه لكِبر سنه! وأصبحت حكمة الرئيس مضرباً للأمثال، وأصبح تفسير
الممثلين له في بقاع الأرض نماذج للتفسير والتأويل والقدرة على فهم الرمز
والإشارة. وازداد الرئيس وممثلوه عظمةً بهذه الجملة، لاسيما أن هناك مشاريع ناجحة
قد أنجزت بسببها.
وبعد مدة من الزمن اقترح ممثلو الرئيس أن يستعينوا ببعض الأغاني الشعبية في مواعظهم، وكلما كرروا عليه الاقتراح كانوا يسمعونه يردد بصوتٍ خافت أغنية عبد الحليم حافظ "توبة.. توبة".
د. فيصل مجهول
(نجم المشرق، العدد (55)، 2008).