كان "الأستاذ" (هكذا يُسمونه) يجلس مع أصدقائه، فسألهم.. وأراد أن يسمعَ رأيهم في إحدى المفارقات.
قال لهم: يُروى في الأساطير أن اليونانيين القدماء احتفظوا بسفينةٍ حربية مدة طويلة من الزمن، ومِن شدة اعتزازهم بها كانوا بين مدة وأخرى يزيلون ألواحَها الخشبية التالفة ويضعون مكانَها ألواحاً جديدة، حتى تمَّ استبدالُ جميع الألواح وكل قطعة من قطع السفينة. لحد الآن لا توجد مشكلة، فهم يحبون هذه السفينة التي أصبحت عندهم رمزاً، بعد أن عاد قائدُها البطل سالماً منتصراً هو وجماعته. جاء الفلاسفة وسألوا سؤالاً: هل هذه السفينة هي السفينة القديمة نفسها؟ أم أصبحت سفينةً جديدة بسبب تبديل جميع مكوناتها؟
قال أبو سعيد: خرجتُ من البيت بأمان الله، وكنتُ أخاف من أن أسمع صوت انفجار، أو أتفاجأ
بسماع خبر اختطاف... وتوقعتُ أن أسمع أشياء عدة، لكني لم أتوقع أن أسمع قصةً كهذه.
من أين جئتَ بهذه السفينة؟ وما علاقتُنا باليونانيين؟ لقد أدخلتَنا بمشكلةٍ لن
نخرج منها إلا بصداع في رؤوسنا.
الأستاذ: هذا سؤال ربما لن تسمعه في مكان آخر، وممكن أن تعُدَّ هذا السؤال هديةً
تأخذها معك للبيت. تأمَّلْ جيداً ثم حاول الإجابة.
أبو سعيد: نِعمَ الهدية! أذهبُ إلى البيت وأقدم لأم سعيد بنت الأنهار والزوارق
سفينةً يونانية "محيّرة"! ليتَها كانت سفينة نوح أو سفينة تايتانك! رحمة
الله عليك عبد الصاحب شراد تعالَ واسمع آخر الأحاديث عن السفن و"السفَّانة"!
الأستاذ: رجاء أبا سعيد، إذا كان عندك جواب أجِبْ، ثم اترك المجال لغيرك.
أبو سعيد: أنا قلتُ سفينة "محيرة"، مثل "مقام محيَّر"! مع ذلك،
إذا أبدلوا كلَّ ما فيها ووضعوا قطعاً جديدة، فما الذي بقيَ؟ هذه السفينة جديدة.
الأستاذ: يُمكن أن يكون رأيُك مقبولاً، ولكن، هناك رأيٌ يقول إن السفينة تبقى هي
هي نفسها حتى لو تم استبدال جميع الألواح. ولا أريد أن أُدخلكم في تفاصيل وجهات
النظر، إذ يمكن أن نعود بفكرة التغير إلى الفيلسوف هيراقليطس القائل بالتغير
المتصل، ويُمكن أن نضرب مثلاً من جسم الإنسان الذي يبقى هو نفسه على الرغم من أن خلاياه
تتغير باستمرار... إلى آخره من هذه الأمثلة، لكن أردتُ أن أسمع رأيكم بالفكرة.
هاني: هذه السفينة تذكرني بأمثلة كثيرة موجودة في بيتي. فسابقاً بدَّلتُ شبابيك
مبردة الهواء، وبعد مدة أبقيتُ الشبابيك وبدلتُ الهيكل كله، ثم بدلت
"الماطور" ومضحة الماء، باختصار لم يبقَ فيها شيءٌ قديم. فماذا أقول
عنها؟ قديمة أم جديدة؟ هي قديمة جديدة رغم أنف التضاد والتناقض! الشيء الوحيد الذي
حافظَتْ عليه هو أنها لا تُبرِّد الهواء. ومرةً فعلتُ الشيء نفسه بآلة العود، فكنتُ
بين مدةٍ وأخرى أُبدِّل قطعةً منه، وبالنتيجة بدلتُ خشب الظهر والوجه والزند والمفاتيح
والجسور والأوتار... ولو أني اشتريتُ واحداً جديداً لكان أفضل! ثم بدلتُ العازف،
إذ أهديتُ العودَ وتركتُ العزف. وكذلك فعلتُ بالكومبيوتر الذي غيرتُ أجزاءه تباعاً
واحداً بعد الآخر؛ من "الماوس" إلى "الشاشة" مروراً بكل قطعةٍ
منه... وكم من شيءٍ بدلتُ كلَّ ما فيه!
أكتفي بهذه الأمثلة البيتية وأعود إلى الفكرة، أنا ميالٌ
إلى الرأي القائل إن السفينة تبقى هي نفسها، على الرغم من تبديل جميع أجزائها، لأن
ما يحدد الأشياءَ هو البنية لا المحتوى، فما دامت بنيتُها باقيةً فلا يهم تبديل
الأشياء. عندما نعتزُّ بشيء، بناية مثلاً، فإننا نصلحها أو نرممها إذا ما تعرضت
للتلف بسبب الظروف الجوية أو الحوادث أو بسبب القصف والحروب... وقد تكون المواد
الداخلة في الترميم أكثر من الأصلية، وقد تكون المواد كلها جديدة، لكننا نحافظ على
الشكل الذي كانت عليه. فكم مرة هُدمت وأُحرقت دور عبادة وبيوت مقدسة وبنايات تراثية،
وأُعيدَ تشييدُها بمواد جديدة، ربما ليس بالمكان نفسه بالضبط بل بالقرب منه، لكنها
تبقى هي نفسها.
أبو نضال: أنا متفقٌ معك، لكن أمثلتي ليست مادية. لقد ذكَّرتْني السفينة بأشخاص
بقيَ كلٌّ منهم هو هو نفسُه في كل زمان، ظل سلوكُه كما هو، لكنَّ "ألواحَه"
تبدلت! بقي سلوكُه المخيفُ المرعب هو هو في أزمنة مختلفة؛ في زمنٍ كان يُخيف
الناسَ بشاربه وفي زمنٍ آخر يُخيفهم بلحيته. كان يضع صورةً على صدره وينتظر منا
تعليقاً أو إيماءةَ سخريةٍ كي يبطش بنا، والآن يضع صورة جديدة بدل القديمة، وما
يزال ينتظر التعليق كي يبطش. كان يُسلِّمُ علينا - وسلامُه لا سلامَ فيه كأنه
إعلانُ حرب – ويقول بصوتٍ عالٍ إنه ذاهب إلى بناية... (تدل على السلطة)، فهل من
معترض؟ والآن بالصوتِ نفسهِ يذهب إلى البناية نفسِها بالدلالة نفسها، لكنَّ اسمَها
تغير، ولا معترض.
أبو سعيد: رجاء لا تُدخلنا بتفسيراتك السياسية لكل شيء.
أبو نضال: ليست سياسية، إنما أتكلم عن بنية مجتمع وسلوك وتربية وعادات... شائعة لا
نادرة. وكأننا أمام شكلٍ هندسي، كالهرم، نغيِّر مواده، فمرةً تكون مادتهُ من
الحجر، ومرةً أخرى من الزجاج، وأخرى من الخشب أو الحديد... لكنه يبقى هرماً. عن
هؤلاء أتكلم لا عن غيرهم، عن صورةٍ توضع مكان صورة، عن كلماتٍ تتغير واللحن نفسه،
عن مناسبات تتغير ويبقى الخوف والإحراج من عدم الحضور أو المشاركة فيها خشيةَ أن
نُتهم بشتى التهم. عمَّن يضربنا بالسلاح أو باليد عند الاستطاعة، فإذا لم يستطعْ ضَرَبَ
أعيننا ليلاً "برماش الفول لايت" أو مزق آذاننا بمنبه السيارة أو
بالصفارة أو بصوتهِ الواجب سماعه... أو صفَعَنا بنصيحةٍ إجبارية بائسة لأنه
العالِم ونحن الجهلة، فالرغبة في الإيذاء واحدة والأساليب متعددة. عن خرافات باقية
منذُ القدم، تلبسُ ثوباً جديداً في كل زمان، وهي الآن تلبس ثوبَ العِلم الجميل. أما
إذا أردتَ أن أضرب لك أمثلة جميلة فهي موجودة أيضاً، فهناك من بقي إنسانياً وتشعرُ
بالطمأنينة عندما تراه في كل زمان. لكنَّ طغيانَ القبح على الجمال يجعلني أتكلم
بهذا الكلام.
أبو سعيد: يا للسفينة! ألم أقلْ لكم سيصيبنا الصداع؟ أفلا يكفينا ما عندنا من
مشكلات في السياسة والكهرباء والأمن والسكن والعمل والشارع والبيت...؟ جميع
المشكلات حُلَّت ولم يبقَ إلا سفينة الأستاذ الفيلسوف!
هاني: لماذا جوابُك معركة؟ يمكن أن تجيب باحتمالين أو أكثر، أو تسكت، أو تقول
بهدوء لا أدري؟ وكم هو عظيم أن تقول "لا أدري" عندما لا تدري.
أبو سعيد: أولاً؛ أنا لا أدري ولا أعرف ولا أفهم، هل رضِيتَ؟ ثانياً سأسأل أم سعيد،
لأن أباها كان "صياد سمك" بدجلة، وخالها كان عنده "مشحوف"
بالأهوار، فهي من عائلة مائية وتعرف هذه "السوالف" أكثر مني، على الأقل
هي جزء من أحاديثهم العائلية. أما أنا فسفينة نوح لم تُحل مشكلتُها عندي، آمنتُ
بها ولا أعرف الكيفية! لكنها سفينة أنبياء وليست لعبة!
أبو نضال: لقد احتار فلاسفةٌ كبار بالحل، وأنت تقول أم سعيد!
أبو سعيد: ومَن قال لك إن الفلاسفة يفهمون أكثر من أم سعيد؟ أم هي أسماء جميلة وحظ
جيد؟ على الأقل هي تحل أكبر مشكلة، أما هؤلاء فهم يخلقون المشكلة ولا يحلونها.
الأستاذ: رجاءً.. لقد ابتعدتُم كثيراً، هل سؤالي عن السفينة أم عن أُم سعيد؟ لسنا
بصدد المفاضلة بين الناس، وكلٌّ محترمٌ في مكانه. ثم من قال لك إنهم لا يقدمون حلاً؟
كل ما في الأمر أنهم لا يريدون أن يفرضوا الحل بلا تفكير أو برهنة، وهذا ما
يُفرقهم عن الذين يُجيبون مع ابتسامة يقينٍ بلهاء مُستفِزة. وهذه السفينة ليست
لعبة أيضاً، ولا أريد أن أذكر لكم اسمَ صاحب السفينة الذي هو ابن إله وقد ذهب
برحلةٍ ليقتل شخصاً شريراً، لأنكم ستسخرون من الأسماء الغريبة وتهتمون بالأحداث وتنسون
الفكرة.
والآن أعود إلى السفينة اليونانية وأضيفُ لكم شيئاً: لم
يكتفِ بعضُ الفلاسفة بالمشكلة بل زادوها تعقيداً فقالوا: إذا جُمعت ألواحُ السفينة
القديمة وقطعُها البالية وبُنيَ منها سفينةٌ على غرار القديمة، مثلها بالضبط، فهل
هذه السفينة ستكون هي السفينة القديمة نفسها؟ أي أنها ستكون سفينة "جديدة
قديمة"! وهذه مشكلة، إذ ستصبح عندنا سفينتانِ، فأيٌّ منهما الأصلية؟
أبو سعيد: مصيبتانِ بدل المصيبة الواحدة. أستاذ؟ إذا عندك "خشبة زايدة"
احتفِظْ بها للسفينة الثالثة! "والله يستر" من الثالثة.
هاني: قبل أن تبدؤوا باحتمالات وأجوبة جديدة أقول لكم: أنا سأحملُ حطامَ سفينة
حياتي، ركامَ أيامي، ألواح آمالي وأمنياتي المهترئة وبقايا أحلامي وذكرياتي... سأحملُها
بما أبقاه لي الزمان من قوة، وأسافر إلى مكانٍ بعيد أو زمان أبعد أو جُزرٍ في
النفس مجهولة، هناك أبني سفينةً من هذا الحطام، وأحلم بالجديد ولو كان من حطام. قد
أضيِّع السفينتين كالذي "ضيَّع المشيتين"، فلا القديمة قادرةٌ على حملي
لأن الزمان أتعبها وحطمها، ولا أنا قانعٌ بجديدةٍ صنعتُها من حطام أو معتادٌ عليها.
تتبدل الصفات على سفينتي؛ قديمة، جديدة، قوية، ضعيفة... لكنها تبقى غريبةً، تُبحرُ
من غُربةٍ في الوطن إلى غُربةٍ في المهجر، سفينةُ خلاصٍ غريبة مغامرة تحمل الغرباء
وتعبر بحار الموت، تسير بين أمواج الرعب والذعر، تتلاعب بها عواصف الخوف، تقاوم ريح
الشر، تبتلُّ بأمطار الحزن، لكن فيها بقايا حُبٍّ.. حُب يجعلها في كل مرةٍ تُبعث من
حطام، فتهب على أشرعتها التي مزَّقها الألم رياحُ شوقٍ طالَ انتظارُها، حب يمنحها
لحظات سعادة تُقصِّر زمنَ رحلةٍ أطالَها الهم، وكلما ألقَت مرساتها في بحر اليأس
رفعَها أملُ اللقاء، وأمسكَ بمقودها رجاءُ الوصل، لترسو على شاطئ يُحطم الغربة
ويحيي حطام الغريب.
فيصل غازي مجهول
(نجم المشرق، العدد (86) السنة الثانية والعشرون (2) 2016).