recent
أخبار ساخنة

أبو سعيد والسرير اليوناني

الأستاذ: كيف حالك الآن يا أبا سعيد؟

أبو سعيد: بأسوأ حال.

فيصل

الأستاذ: أعرف أن صحتك في هذه الأيام ليست على ما يرام، لكن هل من جديد؟

أبو سعيد: الحال نفس الحال، وقد تعبتُ من المراجعة ولا نتيجة. وكيف حالكَ أنت؟ هل أصبحتَ أفضل؟

الأستاذ: أنا مثلك أيضاً، أمراض بسيطة لكنها مزعجة. المهم خبِّرني، ماذا فعلتَ أنت؟ قبلَ أيام كنتَ تريد أن تحدثني عن صديقك فانقطع الكلام، فما الذي قاله لك؟

أبو سعيد: المرضُ بكفةٍ وهذا الصديق بالكفة الثانية.. كان يقول لي كلما يراني: لمَ لا تذهب إلى الطبيب؟ هل تنتظر حتى يستفحل المرض؟ إذهبْ وقُم بالفحوصات حتى لو لم يكن بكَ شيء، من باب التدقيق والاطمئنان والكشف المبكر، فالمراجعة المنتظمة دليلٌ على الوعي الصحي. وعندما أذهب يقول لي: لِمَ تذهب إلى الطبيب؟ إن الذهابَ إلى الطبيب يعني أن لديك وسواساً وقلقاً. ليس بك شيء، أنتَ معافى، وقُلْ بثقةٍ عالية: أنا معافى سليم الجسم. وقلتُها فعلاً بثقة وكررتُها، وكانت النتيجة أن نُقلتُ إلى الطوارئ! وبعد مدة تحسنت صحتي، وسألني كيف الحال؟ قلتُ له: أشعر بأني جيد جداً، فقال لي: لماذا تقول "جيد جداً"؟ رُبما تُحسد على صحتك الجيدة! ثم ساءت صحتي بعد هذا القول. حيَّرَني، لا أدري ماذا يريد؟ كان يقول: حافظْ على نفسك من البرد فلا تُعرض نفسك لتيار هواء بعد الاستحمام. وإذا ما رآني محافظاً على نفسي من تيار الهواء بعد الاستحمام حتى أجف تماماً، قال: إن الخوف من البرد يجلب لك المرض، لا تَخفْ من الهواء، كُن مع الطبيعة وتكيَّف معها. وإذا قلتُ: لا أحب أن آخذ الدواء بغير حاجة ماسة، قال: هل تحب أن تمرض؟ خُذ الدواء قبل أن تكون هناك حاجة ماسة. وإذا أخذتُ الدواء، قال: لا تُعوِّد نفسَك على الدواء، ولتكُنْ عندك مناعة... وهكذا... كيفما كنتُ أو فعلتُ فأنا المخطئ.

الأستاذ: وهل مشكلتُك مع المرض أم مع صديقك هذا؟

أبو سعيد: الاثنان معاً.

الأستاذ: صديقك هذا فيه شيءٌ من صاحب السرير اليوناني! ففي الأساطير اليونانية كان هناك قاطع طريق اسمه بروكرست وهو مضياف جداً لا يترك عابر سبيل إلا يدعوه إلى بيته، وبعد الضيافة كان لا يسمح له بالخروج إلا إذا كان على قدِّ السرير.. بطول السرير بالضبط. كان عنده سرير حديدي وكان يُجبر الضيفَ على أن ينام عليه، فإذا كان أطول من السرير قطع رأسه وقدميه كي يتساوى مع السرير، وإذا كان أقصرَ قام بمطِّ جسمه، أي سحبه من الرأس والقدمين حتى يصبح بطول السرير، بعد أن يُخلع كل شيء طبعاً، وفي الحالين يموت الشخص. وقيل كان لديه سريران أحدهما طويل والآخر قصير، وكان يجعل الشخص الطويل ينام على السرير القصير والعكس أيضاً... ومهما يكن من شيء فإن النتيجة أن الضيف لا يخرج حياً. إلى أن جاء من هو أقوى منه ووضعه على السرير فقتله، قتَلَه بالمقياس الذي كان يستعمله لقتل الآخرين؛ ذلك أنه لم يتطابق وطول السرير. وهل تعلم مَن الذي قتله؟ إنه صاحبُ السفينة التي كلمتُك عنها سابقاً.

أبو سعيد: إييييه.. تخلصنا من السفينة وجاءنا السرير، لكن هذه الفكرة قد أعجبتني يا أستاذ، فهذا ما يحدث لي بالضبط. وهل يمكن التخلص من هذا السرير؟

الأستاذ: كلا. تسلمُ من سريرٍ وتقع في آخر، يجعلك بعض الناس تنام على سريرهم الاجتماعي.. مقياسهم الاجتماعي، فإذا كنتَ أغبى ضحكوا عليك وإذا كنتَ أذكى دمروك، لأنك يجب أن تكون بحجم السرير، لا أطول ولا أقصر. وإذا كنتَ بطوله تماماً فأنت لا شيء.. أنت غير متميز عنهم لا تستحق عناء الكلام. يومياً يضربون مثلاً من عظماء أو شهداء كانوا أطول من السرير، لكنهم لا يريدونك أن تكون في الوقت الحاضر أطول. بروكرست لم ينتهِ، وصار سريرُه إرثاً تقاسمه الورثة من جميع التخصصات. والقتل أشكال؛ قتلٌ حقيقي وقتل مجازي، ويُقتل الناس يومياً حقيقةً ومجازاً، ويُبرَّأ القاتل ويُكافأ ويُحترم حقيقةً ومجازاً. بروكرست يتجسد في الناس في السلوك في المفاهيم يومياً، معيار عشوائي جائر، لن تنجو منه مهما فعلتَ. ولنترك هذا الكلام ونعد إلى صديقك، إن مقاصدَ صديقك ونواياه حسنة، إنه قريبٌ من بروكرست بالطريقة وبعيدٌ عنه بالغاية.. فهو لا يريد لك إلا الصحة والسلامة في جميع الأحوال، وليس بينه وبين بروكرست إلا فكرة فرض الرأي، ولكن، بسلامٍ واحترام.

أبو سعيد: شكراً لأنك تريد أن تخفف الأمر. أنا أحبه لكنه مزعج... هل تعرف مثله؟

الأستاذ: لو عرفتَ الذين أعرفُهم لترحمتَ على صديقك هذا!

أبو سعيد: خبِّرني.. هل راجعتَ طبيباً؟

الأستاذ: نعم، أمَا قلتُ لك إني مثلك بالضبط؟ لقد ذهبتُ إلى الطبيب، وهذا الطبيب لا يعد المرضَ مرضاً إلا إذا كان مُميتاً. وقد تذَّكرتُ بعض فرسان العرب القدماء، كان أحدُهم لا يلتفتُ إلا إذا كان خلفه أربعون فارساً، أما إذا كان خلفه فارسٌ أو فارسانِ فإنه لا يلتفت لأنهم لا شيء.. لا يستحقون أن يلتفت إليهم. ربما كان هذا الطبيب مثل أولئك الفرسان الأبطال! فإذا لم يكن عندك جلطة أو سرطان أو ذبحة أو فشل كلوي... فإنه لا يلتفت إليك! فارسٌ من فرسان تلك الأمراض.. وعنده طريقة يختصر بها كل شيء، كلما سأله المريضُ عن أمرٍ قال له: "نفسي"، "مرض نفسي"... ولو كسرت ساقكَ لقال لك "نفسي"، وليته كان طبيباً نفسياً فتطمئن لتشخيصه! إن "النفسي" عنده يساوي المجهول، وبدلاً من أن يقول "لا أدري" يقول "نفسي". لكنه والحق يُقال فارسٌ قوي فعلاً، إذهبْ إليه وعندك مرض خطير وسترى كيف يُنقذك من تلك الخطورة ويُشفيك. أما "النفسي" فأنا أعذره، إذ يبدو أن عالَم النفس والروح كله هكذا، إن لم يكن الأمر واضحاً أو معلوماً فإنك تُرمى إلى منطقة المجهول.

أبو سعيد: عجييييب! مع ذلك فإنه أفضل من الشخص الذي استشرتُه. سأحكي لك: استشرتُ شخصاً مهتماً بالصحة، ويبدو أنه يُشبه بروكرست أيضاً. بدأ يسألني وينظر إليَّ ويتفحصني... وكلما قلتُ له شيئاً قال لي العكس! أقول له: فحصتُ الضغط، يقول: لِمَ تفحصه أنت؟ وأقول له: لَمْ أفحص السكر، يقول: لماذا لم تفحصه؟ كنتُ أنظر إليه وأخمن أنه مجنون، وكان ينظر إليَّ ويخمن أنني مجنون. ثم قال لي مثل الذي قاله طبيبُك: ليس بك مرض عضوي، ويبدو أنك متضايق نفسياً، هل أنت متضايق أو منزعج من شيء؟ قلتُ: كلا، حياتي اعتيادية، وحتى بعض المزعجات فهي عامة وليست خاصة. فقال: إن لم تصبح مجنوناً بسبب هذه الظروف فأنت مجنون، إذ لو كنتَ عاقلاً لجُننتَ، وبما أنك لم تجن فأنت أصلاً مجنونٌ لا عاقل. وهكذا خرجتُ منه مجنوناً في كل الأحوال.

الأستاذ: ما المشكلة؟ كلنا مجانين بدرجات، فلا تقلق. ثم أن هذه الكلمة عامة جداً وما عاد أحدٌ يستعملها، فهناك أمراض عقلية وأمراض نفسية أو كما يقال ذهان وعصاب... إلخ. وكلٌّ منا يتعرض لضغوط، ونحتاج لمن يساعدنا. ولكن، من المساعد؟ أفضل خيار أن نذهب إلى طبيب نفسي، مع أن هذا غير شائع في ثقافتنا، وغير مرغوب فيه! فهل ذهبتَ إلى طبيب نفسي؟

أبو سعيد: كلا، لم أذهب. كان بعضٌ من الذين يحبونني قد نصحني بالذهاب إلى أحد الدجالين، بالتأكيد هم لا يطلقون عليه اسم "دجال" أو "ساحر"، بل يطلقون عليه أسماء وصفات جميلة محترمة وبعضها دينية مباركة. ولم أذهب قناعةً بل إرضاء لأولئك الذين لا أريد أن أجرح مشاعرهم ومعتقداتهم، وخلاصاً من إلحاحهم وكلامهم ونصائحهم: "إذهب ولن تخسرَ شيئاً"، "إذهب إنه رجل مبارك"، "لماذا لا تعتقد بهذا الرجل؟"... وكأني أريد أن أقول لهم: سأفعل ما تريدون وخلصوني.. أو افعلوا أي شيء وخلصوني.

الأستاذ: نعم، قد تيأس ويبلغ بك السخط مبلغاً تقول فيه لصاحب أي مقياس إفعَلْ ما تشاء وخلصني، كما قال شخصٌ لشيخٍ متشدد تكفيري لم يكن راضياً عن طول لحيته وثوبه، قال له: خُذ هذا المقص وقُص من لحيتي وثوبي إلى الحد الذي لا أكون فيه كافراً. فقد سئمَ من أن يُتهم بالكفر بسبب طول ثوبٍ أو لحية...

أبو سعيد: نعم، تعبتُ ووافقتُ مع عدم قناعتي.

الأستاذ: لكن مثل هؤلاء الأشخاص قد تكون فيهم فائدة لبعض الناس، فالعلاج الذي يُشفي الحمير يختلف عن الذي يُشفي البلابل، وعسى أن يكون الذاهب لهم حماراً لا بلبلاً.

أبو سعيد: أستاذ!!! هل هذا الكلام يخصني؟

الأستاذ: كلا، حاشاك يا أبا سعيد، هذا الكلام يخصنا جميعاً. فأن نكون حميراً ونشفى خيرٌ من أن نكون بشراً ولا نشفى.

أبو سعيد: على العموم، مهما تكن مقاصدك، فالعلاج لم ينفع معي. أفي كلِّ مرةٍ نُجرب ولا جديد؟! لم أقبض شيئاً إلا أن ازدادت قناعتي بأنه دجال محتال.

الأستاذ: نعم، إن من لا يعتقد بهؤلاء وأمثالهم يزداد مرضُه عندما يراجعهم، ويخرج خاسراً بالحالين، فإما أن يكذب ويقول أصبحت جيداً، أو يصدق القول فيُلام لأن شيطانه قوي، فيُحيلونه إلى مَن هو أكثر دجلاً من الأول، والدجالون درجات مبتدئون ومتمرسون...

أبو سعيد: وأنت.. هل ذهبتَ إلى طبيب نفسي؟

الأستاذ: نعم، وقال لي: ليس عندك شيء. ولكن هل انتهت المشكلة؟ لم تنتهِ. وماذا يفعل المُتألِّم؟ إن الألمَ ألمٌ ولو كان في طرف الإصبع الصغير. وهل كلُّ مَن شكا مِن ألمٍ خائفٌ مِن الموت؟ عندما يقول الطبيب لشخصٍ لا تخفْ فإن حالتك ليست فيها خطورة فهو لا يدري بأن المريض يعرف هذا الكلام لكنه يريد حلاً للألم أو للاضطراب. فنحن نعرف أن ألم الأسنان لا يؤدي إلى الموت، لكن هذه المعرفة لا تُسكِّن الألم؟

أبو سعيد: إذن.. فشل الأطباء أيضاً.

الأستاذ: ليس الأمر هكذا.. لقد عجز علمهم الآن عن العلاج، ومسيرة العلمِ مسيرةُ تجربة واكتشاف وتصحيح أخطاء... أما نجاح الجهل فهو مؤقت. يفرح كثيرٌ من الناس فرحاً شديداً بقصصٍ تُروى عن فشلِ الأطباء في معالجة مرضٍ معينٍ ونجاحِ الساحر أو الدجال بعلاجه، ويصدقونها بلا دليل، فالدليل لعبةُ فلاسفة وعلماء وذوي عقول نقدية لا يلعبها معظم الناس إذ إن لديهم ألعاباً أخرى. فإذا ما ذكرتَ لهم شيئاً عن مرضٍ معين، قطَّعوك أو سَحبوك كي تتساوى مع سرير الدجال. والإيمان بالدجل والخرافة يذبل حيناً وينتعش أحياناً... وقد أسهم العلمُ بالقضاء على شيء منه، لكن العلم ليس وحده في الساحة، ونتائج العلم يتحكم بها اللاعلم... فإذا خرجَ العلمُ يبقى المكان فارغاً، وأنتَ وحظُّك بالذي سيحل محله! قد تدخل الخرافة من أوسع الأبواب، ولكل بابٍ بوابون لا نستطيع نفيَ صفةِ الثقافة عنهم بمفهومها الشائع المتداول، وهم بحسب هذا المفهوم علماء متعلمون مثقفون مُقنِعون مَتبوعون مسموعون محترمون مُطمَئنُّون مُطَمئِنون، وأضِفْ أنهم دجالون خرافيون جاهلون خائنون مبتزون مروجون تابعون... (وتمرَّنْ على حل التضاد والتناقض إن وُجد)... وهنا لا أدمج الخرافة بالروحانيات والدين عموماً، فهناك (ربما على مقياسي وعلى سريري أنا) نسبةٌ مقبولة من استعمال أنواع أخرى، مساعدة، في العلاج، وهل قال رجال الدين بإهمال الطب؟ ألا يذهبون إلى الطبيب عندما يمرضون؟ لكني أقصد ذلك المُستغِّل المخادع المنتفع الذي يستغل ضعف الإنسان فيأخذه إلى خرافة ارتبطت بشبكة علاقات معقدة مع الدين والمعتقدات والتقاليد والأعراف والسياسة والتمويل والاقتصاد والمهن والأرزاق، فأصبح نقدُها كأنما يعني نقد الدين، ويُحارَب نقَّادُها بحجةِ أنهم أعداء للدين. فهؤلاء الذين يعالجون المريض بطريقةٍ متخلفة، يستندون في علاجهم إلى قناعات المجتمع ومعتقداته، ولأن أكثرها دينية فهم ينطلقون منها ويوظفونها لمآربهم، وإلا لو كانت غير دينية لرأيتَهم أيضاً يستغلونها، فيُخدع الإنسان ويُستغل باسم الصحة أو الحرية... وعَلمنةُ الدجل ليست بعيدة عنا. والخرافة والجهل والدجل والاستغلال والشر كلها موجودة بنسب في أي مجتمع، تكمن وتنتظر، وفي الوقت المناسب تظهر، ولا أنسبَ لظهورها من أوقات الضعف.

أبو سعيد: أظن أني قد فهمتُ معظم هذا الكلام لا كله... لكن، هل من حلٍّ لأمراضنا؟

الأستاذ: لقد عاش الناس وتألموا وماتوا من أمراض لم تكن أسبابها معروفة، ثم أصبح علاجها بسيطاً، وفي يوم ما ستُعالج أمراضُنا، ليس لنا بل لإخوتنا وأبنائنا من البشر.

فيصل غازي مجهول

(نجم المشرق، العدد (91) السنة الثالثة والعشرون (3) 2017).

 

author-img
فيصل غازي مجهول

تعليقات

google-playkhamsatmostaqltradent