د. محمد فاضل عباس
إذا أردت أن تعرف مدني صالح جيداً فاقرأ هذا الكتاب جيداً، وإذا ادعيت معرفته دون قراءة هذا الكتاب فتأكد أنك واهم، أو أن معرفتك به غير دقيقة.
هذا كتاب فيه مجمل الحوارات التي أجراها مدني صالح في الصحف العراقية أو التي أجرته معه الصحف العراقية، حواراتٌ شارك مدني صالح في تصميم بعض أسئلتها، جمعتها بتوجيه منه وبمعيته، وأراد لها عنواناً (في مهب عواصف الصحافة الثقافية) وارتأيت أنا لها عنواناً (مدني صالح: آراءٌ وأحكامٌ ومواقف) لأننا سنجد في هذا الكتاب آراء وأحكاماً ومواقف من مجمل الثقافة علماً وأدباً وفناً وفلسفةً يقدمها مدني صالح.
واستمراراً على الوعد الذي قطعته على نفسي بأن أنشر كل ما كتبه مدني صالح
ولم يُكتَب له أن يُنشر في كتاب، أخرجت هذا الكتاب.
يحلُم مدني صالح ويحلم ويُسأل بماذا تحلم؟ ويُجيب ((بكوكب لا تكون فيه
الجماعة مجتمعة أقوى من أحد أفرادها إذا كان الفرد على حق وكانت الجماعة على
باطل)) وما السبيل إلى ذلك؟ ((أن يكون القانون أقوى من الجماعة المجتمعة وأقوى من
الفرد المنفرد وأقوى من الغني القوي وأقوى من الفقير الضعيف)) وأن يكون هنالك من
هو قادر على إعطاء كل ذي حق حقه وإنزال الناس منازلهم التي يستحقون، على أن يكون
هنالك من يضع الرجل المناسب في المكان المناسب، على أن يكون هنالك تخصص في العمل
وقدرة عليه ومحبة به وإنصاف في التحكيم إذا وجب التحكيم، على أن لا تتفق الجماعة
على الباطل حين يكون الفرد على حق وتنهشه نهشاً وعلى أن لا يستبد الفرد ويُصبح
دكتاتوراً مع الباطل على الحق، فالأمنية الحلم والحلم الأمنية أن يكون القانون
أقوى من الجميع وهذا حلمٌ من أحلام مدني صالح ومن أحلام الطيبين ومن أحلام
الفلاسفة.
إنك لا تجد في هذا الكتاب آراءً وأحكاماً ومواقفَ فقط لكنك ستجد أيضاً
أحلاماً وآمالاً وأمنيات، أحلامٌ لا تتحقق وآمالٌ مهجورة وأمنياتٌ لا منال لها
أردت أن أضعها جزءاً من عنوان هذا الكتاب، لكني خشيت أن أُرهق هذا العنوان.
((يظل المليونير أقوى من الفلاسفة جميعاً ومن القانون في جميع البلاد))
وإنه ((أقوى من السياسي وأقوى من التاريخ وأقوى من القانون)) وأقوى من السياسة
والتاريخ وكلها أدوات الغالبين السايكسبيكويين المُرابين، أدوات الأغلب الأقهر
الأسعد، وهو أقوى من أدواته، كما أنه أقوى من العلم والعلماء وأقوى من الفلسفة
والفلاسفة وأقوى من الأدب والأدباء وأقوى من الفن والفنانين وأقوى من الإبداع
والمُبدعين وأقوى من الثقافة كلها ومن المثقفين كلهم، والعلم والأدب والفن
والفلسفة والثقافة عامة من أدوات المغلوبين، من أدوات الأضعف المغلوب المندحر
المهزوم.
((فإن كل ما كان في الماضي وكل ما هو كائن في الحاضر وكل ما سيكون في
المستقبل من هذه الحوادث الكبرى ما هو إلا إفصاح عن صراع، ما هو في جوهره إلا صراع
بين التجار وإن هذا الصراع يُعلن عن نفسه بوسائل منها الحروب)).
((وإن الفيلسوف يُبدِّل الرأي إذا رأى الدراهم والمليونير لا يتنازل عن رأي
مهما رأى من فلسفات)).
وإلا فلماذا يُبدلون الرأي؟ وينقلبون في المواقف؟ يبدلون الرأي إما خوفاً
أو طمعاً، يبدلون الرأي إذا تبدل الحال وافتر دولاب الدنيا ودولاب السياسة
والبوصلة عندهم لا تلتفت إلا إلى الأغلب المنتصر الأقوى المُحتكر، فعندها تتبدل
المواقف وتنقلب الآراء وتتغير الملابس والأزياء وتتغير الموديلات كلها، موديلات قص
الشَعَر وارتداء الاكسسوارات ويتبدل عندها كل شيء وستتبدل الأماكن التي يرتادوها
والوجهات التي يسافرون إليها، وكل ذلك تلبية لمزاج ولرغبة ولمعتقد المنتصر الأقوى
الأغلب الأسعد، فإنهم لا يلتفتون إلا إلى الجهة التي فيها الفلس الزائد طمعاً وإلا
إلى الجهة التي يأمنون شرها خوفاً، لا مواقف ولا مبادئ، لا بل ستتبدل كل
تنظيراتهم.
((فالتاريخ كله لعبة جميلة يتداولها التجار)) والشاعر الكبير مُندحر كبير
والفيلسوف الكبير مندحر كبير والفنان الكبير مندحر كبير والعالِم الكبير مندحر
كبير. يقول مدني صالح ((إني بعد أن أيقنت من الطوفان وبعد خراب الفلسفة، صُرت لا
تتاح لي فرصة تكويم الثقافة كلها علماً وفناً وأدباً إلا كومتها وقهقهت عليها،
وقهقهت وقهقهت وإلا فما الفلسفة والدنيا كلها وتسعة أعشار الآخرة بيد إصبعي
القارون يُقلِّبها ومعها الثقافة كيفما يشاء ومثلما يُريد، أَبقيَ لي بعد خراب
الفلسفة والطوفان إلا التداوي بالقهقهات على الثقافة حتى حدّ التطافح بالمباهج
وبالراحة والمسرات ومضاعفة الإحساس بالتفوق حتى تجاوز تخوم الغطرسة والتغطرس وإلا
أَمقلوب بالثقافة في الثقافة ولا أقهقه عليها؟ ولا أتغطرس في هذا التاريخ الذي
نعيش فيه ونحلُم بغيره، نعيش بالذي لا نُريده ونحلُم بالذي تُريده الروح، الذي هو
حال الكندي والرازي واخوان الصفا والفارابي وابن سينا والسهروردي وابن باجة وابن طفيل وابن رشد
الأفذاذ الذين انقلبوا قهرمانيين وانقلبت الفلسفة معهم جارية لا أعزّ منها ولا
أجمل ولا أبهى))
والأرض عند مدني صالح لا يفهمها إلا على أنها ((كرة يتلقفها تجار ويلعب بها
متاجرون والفلاسفة والعلماء والمُصلحون كالمخترعين وكالمكتشفين وكالمبدعين: يولدون
ويعيشون ويموتون في خدمة أصحاب الملايين، إنها حقيقة لكنها مُرّة)).
ومن أحلام مدني صالح وأمنياته ((أن تكون الحكومة في الدولة أن تحمي القانون
من التاجر وأن تحمي الفيلسوف من المليونير وإلا أصبحت الحكومة شرطية تحمي التاجر
من القانون وتحمي المليونير من الفيلسوف ولا تقبل من الثقافة في الدولة إلا بالذي
يُرضي التاجر المليونير من العلوم والآداب والفنون، والفلوس أقوى من الثقافة هذه
بديهية، حقيقة راسخة)).
وعن الفلسفة يعتقد مدني صالح: أن الفلسفة غريبة ومحاصرة ولا يتداولها إلا
الفلاسفة قراءة ومحاورة وكتابة وجدلاً وأنها بعيدة عن العامة في كل العصور فلقد
ظلت الفلسفة وتظل محاصرة بين الفلاسفة للتداول، لا للتداول بين العامة في أي من
العصور منذ بدأت حتى هذه الساعة من الزمن، وليس في الأمر إلا من طبائع الأمور،
فالقانون العادل خير من الفلسفة الصحيحة.
فالجمهور يريد قانوناً عادلاً لا يُريد فلسفة صحيحة وهذا تعبيرٌ عن المرارة
((فما مليار مليار فيلسوف إزاء نصف شرطي أو نصف فقيه، كي نؤلب الفقهاء على تفويض
الشرطي بمنع الفيلسوف عن فلسفة لا يقرأها – هذا إذا قرأوها – إلا الفلاسفة الذين
لن يلتفِت إليهم أحد بشيء من جدية واهتمام منذ زمن طاليس وهيراقليطس حتى زمن
بيرتراند رسل وجان بول سارتر))
وعن النشر في المجلات وأنواعها وأعدادها وجودتها يقول مدني صالح ((أنا من
أنصار التوحيد والتنسيق وإنشاء مجلة فصلية مركزية واحدة لكل من فروع الإبداع
الأكاديمي العربي، لا لتدريب طُلَّاب الترقيات العلمية والمكافآت المالية على
الكتابة مطولات لا جديد فيها ولا يقرأها أحد)).
والذي هو حالنا بالأمس هو حالنا اليوم وحالنا في المستقبل إذا ما بقي الأمر
على ما هو عليه.
كما يوصي مدني صالح طلاب الفلسفة قائلاً ((أوصيهم بالرياضيات وبالعلم
الطبيعي مدخلاً إلى الفلسفة وإلا فكل المداخل إلى الفلسفة باطل من الأباطيل وضلالة
واحتيال وتضليل وأنا من أنصار نقل أقسام الفلسفة كلها من دوائر الدراسات الأدبية
في جامعات الوطن العربي إلى دوائر الدراسات الفلسفية العلمية في هذه الجامعات،
وأوصيهم بالرياضيات وبالعلم الطبيعي مدخلاً إلى الفلسفة وإلا ظلت دوائر الدراسات
الفلسفية مبزلاً للمالح الأجاج من تفاهات الطائفيين والملائيين وذوي العاهات
والبلهاء والمستشرقين)).
وعن الذي تقرأه أو تريد أن تقرأه يقول لك مدني صالح ((واقرأ في الامهات
واقرأ في التوراة، واقرأ في الانجيل واقرأ في القرآن واقرأ في أساطير الأولين التي
منها جلجامش والالياذة والاوديسة، واقرأ المجموعات الكاملة لأفلاطون ولأرسطو
وللفارابي ولابن سينا وللغزالي ولديكارت ولجون لوك وللجاحظ، وولليوكريشس ولتوما
الاكويني، واقرأ كتاباً من أمهات الكتب في الفقه وكتاباً من أمهات الكتب في الحديث
وآخر في التفسير واقرأ في ديوان المتنبي وفي ديوان المعري واقرأ من المتفرقات
(مسائل فلسفة الفن المعاصر) لجويو، و (مجمل فلسفة الفن) لكروتشه، و (الأدب
الجاهلي) لطه حسين، واقرأ في (ثروة الشعوب) لآدم سميث، وفي (رأس المال) لكارل
ماركس، وفي (أصل الانواع) لدارون، واقرأ كتاباً مبسطاً في النسبية، وقلّب في
(الكوميديا) لدانتي وفي (فاوست) لجوته، وفي (دون كيشوت) لسرفانتس... لكن الثقافة
لياقة وتأنق ونقاء قبل أن تكون قراءة وكتابة وتقليباً في المجلدات، ويظل الشعر
الجاهلي من أحسن الرياضيات اللغوية للعربي في الصرف وفي النحو، وفي الشاهد وفي
الإعراب وفي تقويم اللسان، فتقوية البيان، واقرأ من المتفرقات (تجديد الفلسفة)
لجون ديوي، وفي (حكمة الغرب) لبيرتراند رسل، واقرأ ما شئت لا ما شاءت الأقدار
وانظر في الكتب التي تُزدك حباً وعدلاً وجمالاً إذا ما زدتها نظراً))
فأقرأ ما شَئت انت لا ما شاءت الأقدار .
((فأنا لو أقدر على عطاء فلسفي يشبه قانون الجذب العام في الفيزياء أو يشبه
قوانين الضغط لدونته، هذا الذي أقدر عليه وأسكت، لا أقول للناس شيئاً ليحتفلوا بي
ويفرحوا بالذي صيَّر لهم الفلسفة علماً، لكنه من الحلم الذي يعني إنه من الشعر))
وفي جوابه عن سؤال: ما وظيفة الفلسفة في عصرنا. يرد مدني صالح قائلاً((أن
تُجيد الانحسار إزاء مد العلم في الطبيعة وأن تُجيد الاستبسال في المقاومة إزاء مد
الظلم والشر في الإنسان، لم يبقَ لها في الموضوع إلا تداول مشكلات لم يَقُل فيها
العلم بعد القول الفصل))
كما لا ينصح مدني صالح العلماء الفاتحين في العلم بالالتفات إلى ما قد يقول
الفلاسفة في مناهج العلماء وطرائق الاستقراء، فالفلسفة عيال على العلماء في مناهج
العلوم الطبيعية وطرق الاستقراء، فالعلماء هم المكتشفون الذين يضعون منهجاً
للاكتشاف وللوصف العلمي الصحيح لما يقومون به وليس الفلاسفة، فالذي يجيء إلى
الفلسفة من العلم هو من يُتقن الفلسفة ويُتقن العلم وفلسفة العلم ونقبل منه الآراء
والمواقف والأحكام لأنها آراء علمية تجريبية وحتى وإن تنبؤوا فإن تنبؤاتهم قائمة
على أسس علمية رصينة.
ومن أمنيات مدني صالح وأمنياتنا نحن ايضاً أن يكتب جملة واحدة تُحدث تحولاً
يعتز به وينفع الناس ونكتُب ونعتز معه أيضاً، أو لتكن الأمنية أن يكتُب صفحة أو
صفحتين مما ليس في ملايين المجلدات أو تكون الأمنية: تلخيص الفلسفة في مجلد واحد
أو أن يظل معلم الفلسفة ويكتب معها القصة إذا حضرت والرواية إذا جاءت والمقالة إذا
كانت ملائمة، لكن لا القصيدة.
كما يدعو مدني صالح دعوة ضرورية ((إلى أن تتبنى الحكومة في الدولة عملية
التربية منذ أولى مراحل الطفولة تربية مركزية موحدة في المنهج وفي الكتاب وفي
التاريخ وفي إعداد المعلمين، في التطلع إلى المستقبل حتى لا يجيء العيد على ابن
العامل التقي الطاهر حافياً مشقوق الرداء مهما كان في أمر تبرير أرسطو انعاشاً
لامبراطورية الاسكندر المقدوني الكبير))
أما عن الفلاسفة المسلمين فإنهم - كما يرى مدني صالح – قد نجحوا في حُسن
تداولهم بالتوفيق بين النظرة القرآنية إلى الوجود وبين النظرة المادية له باقرارهم
((إن الفلسفة للخاصة وإن الدين للعامة وإن على الفيلسوف مهما يكن من أمر اعتقاده
أن يُعظِّم شعائر الدين فلا يُظهر للعامة ما قد يُقلقهم فيضيّعون شيئاً من انضباط
الدين ولا ينتفعون بشيء من انضباط الفلسفة)) فلا حكمة يفقهون ولا شريعة يتبعون.
وهنالك آراء واحكام ومواقف من الشعر والشعراء ومن الرواية والروائيين ومن
الأسطورة والأساطير ومن الفلسفة والفلاسفة، كلها من الممتع النافع الجميل، لا قصد
من ورائها إلى الرأي العلمي الثقافي الرصين، ولا هدف من ورائها إلى العمل للإنتاج
واللعب للابتهاج والتصفيق للأقوى الأعلى الأسرع من أينما جاء، حباً بالأولمبياد
وحباً بالمنافسة الشريفة، كل ذلك سنقرأه في هذا الكتاب.
وإذا كان لا بد من كلمة فلا أحسن من أقدم شكري وامتناني للدكتور فيصل غازي
مجهول الذي راجع هذا الكتاب مراجعة لغوية واملائية وطباعية دقيقة، استغرق فيها
وقتاً ليس بالقليل وبذل فيها جهداً كبيراً، كان في مراجعته هذه جاداً ومخلصاً
لمدني صالح أولاً ولي أنا ثانياً، حريصاً على أن لا يخرج هذا الكتاب وفيه أخطاء
إملائية ولغوية وطباعية لا تليق بمدني صالح، وهذا فضلٌ لا يؤتى إلا لذي حظ عظيم،
فحظ مدني صالح وحظي أنا أن يراجع هذا الكتاب الدكتور فيصل غازي مجهول، لدقته
العالية ولمعرفته الواسعة في لغتنا العربية الجميلة، فشكراً له.