recent
أخبار ساخنة

مدني صالح، مقالات في الدرس الفلسفي

 د. محمد فاضل عباس

محمد فاضل عباس فيصل غازي مجهول

هذا الكتاب مقالات للأستاذ مدني صالح ذات طابع بحثي ، كنت قد اتفقت معه على جمعها وترتيبها بهذا الشكل الذي بين أيديكم خدمة للدرس الفلسفي . مقالات كلها منشورة في الصحف العراقية ، لكنها حسب تقديري غير مقروءة ، لذا فهذا كتاب جديد لمدني صالح لأنه لم يقرأ بعد، فيه خلاصة آرائه ومواقفه من مجمل تاريخ الفلسفة الغربية 

    يدعو مدني صالح في كتابه هذا إلى: كيف نقرأ الفلسفة وكيف نفهمها وكيف نُعلمها لطلاب الفلسفة ، وكيف نبدأ معهم الدرس الفلسفي ، ففي هذا الكتاب يتضح لنا جلياً مدى قدرة المؤلف على فهم واستيعاب الفلسفة التي سعى إلى تبسيطها وجمعها وتلخيصها ، هذه الدعوة التي لم يكُف عنها مدني صالح حتى مماته ، وفيها كان مراهناً على إمكانية تداول الفلسفة بلغة واضحة دقيقة بسيطة ممتعة لا لبس فيها ولا غموض ، مثلما ظل معتقداً بأن سوء الفهم لا يقف وراءه إلا من حسب نفسه على الفلسفة وكتب فيها مدعياً فهمه لها ، فالذين لا نعرف من أين جاءوا وتسربوا إلى الفلسفة ورمت بهم الأقدار إليها هم الذين أساءوا قراءتها وأساءوا فهمها وأساءوا تدريسها والكتابة عنها والحوار فيها ، فظل مدني صالح متمنياً للفلسفة ولمن يتخصص فيها البساطة والوضوح والدقة ، فستجد في هذا الكتاب وبشكل واضح دعواه المستمرة إلى أن على الفلسفة أن لا تعاند العلم وأن تقبل منه كل ما يأتي به ، وأن لا تتدخل فيما لا يعنيها ، وأن تعاند الخرافة والجهل وأن تحارب التعصب والجمود والانغلاق وأن لا تقع في براثن الغيب ، فالغيب ليس من أمر الفلسفة وإلا إذا ما استمرت الفلسفة مدافعة عن قضايا قد أسقطها العلم ، فعندها لم يزدد طالبها إلا  سخرية منها وإلا كيف تدافع الفلسفة عن نظرية الفيض مثلاً أو عن الطبيعة عند أفلاطون أو العناصر الأربعة عند أرسطو أو عن القول بوجود عالمين ، وكل ذلك قد أسقطه العلم منذ كوبرنيكوس وغاليلو وكبلر ، فكل هذا لا يمكن أن نفهمه إلا على أنه مرحلة من مراحل التفكير البشري ونمط منه ليس إلا ، كما ستجدون في هذا الكتاب موقفاً من الغطرسة الأوربية وإحساس الأوربي بالتفوق والتفرد في مركز القيادة الحضارية ، الأمر الذي لم يقبل به مدني صالح الذي رفض احتكار الفكر والفلسفة في حضارة دون أخرى ، وموقف مدني صالح هذا ما هو إلا رد فعل على غلو أصحاب المركزية الأوربية ، فإن تغالوا نغالي وإن تعترفوا نعترف ، وستجد أيضاً في هذا الكتاب دفاعاً مستمراً على أن الفلسفة لم تبدأ إلا علماً طبيعياً: فيزيائياً في البحث عن مبادئ الحركة وكيميائياً في البحث عن مبادئ التغير وبايولوجياً في البحث عن مبادئ الحياة ، وإن السؤال الفلسفي عن الأصل التكويني المشترك لجميع الموجودات لم يكن إلا سؤالاً علمياً عن الأصل المُكون لهذه الموجودات فيزيائياً وكيميائياً وبايولوجياً ولم يكن الجواب إلا علمياً في حينه ، فالفلسفة عندما بدأت لم تبحث عن أصل ميتافيزقي لهذا العالم مثلما لم تبحث عن أصل خرافي له ، بل أرادت أن تبحث عن أصل مادي علمي يخضع للتحليل والتجريب في هذا العالم ، وهكذا كان الفلاسفة الطبيعيون الأوائل وكذلك الذريون ، ولم تَخرب الفلسفة إلا عندما وقعت في براثن الدين وأصبحت خادمة له ، ولم تَخرب الفلسفة إلا عندما وقعت في براثن السياسة وأصبحت خادمة لها ، ولم تَخرب الفلسفة إلا عندما عاندت العلم ، ثم عادت الفلسفة على يد ديكارت الذي فصلها عن الدين وميز بين مناهجها ومناهج اللاهوت وعلى يد فرنسيس بيكن الذي فصلها عن العلم وميز بين مناهجها ومناهج العلم ، ثم ازدهرت وازدهرت على يد الذين أرادوا لها أن تكون موقفاً وسلوكاً ، رفضاً وتمرداً ، اكتفاءً بالذات واستغناءً عن الغير ، فازدهرت على يد سارتر وبرتراند رسل وجون ديوي وازدهرت على يد الوجودية والوضعية والبراجماتية .

    ظل مدني صالح داعياً على أن ندرب طلاب الفلسفة على الطريقة العلمية الصحيحة في التفكير ، على مطابقة الواقع للفكر ، على مطابقة الفكر لواقع حال الموضوع  أولا ، وعلى الطريقة النقدية الشكية في قبول المسلمات التي لا نعرف كيف وصلت إلى درجة اليقين ومتى دخلت إلى الدرس الفلسفي ثانيا ، وعلى التمرد واتخاذ المواقف المناسبة في الأوقات المناسبة والاكتفاء بالذات والاستغناء عن الغير ثالثاً ، وعلى الحرب على الانغلاق والتعصب وعلى تجاوز تضخم الذات مثلما تجاوز عقدة النقص وحب الآخرين وحسن المواطنة رابعاً ، وعلى محاولة تصحيح الخطأ واكتشاف المجهول واختراع الممكن خامساً ، وعلى الذوق الفني الرفيع والراقي وعلى التمييز بين ما هو جميل وما هو قبيح سادساً ، وعلى تبديل عالمنا الذي لا نتمنى أن نعيش فيه وتطويره من حسن إلى أحسن وتنظيم علاقاتنا وإعادة التوازن الاجتماعي سابعاً ، وعلى التسامح وقبول الآخر ثامناً ، وعلى العمل المنتج واللعب المبهج تاسعاً ، وعلى الأكل من قدامنا والتنافس على أساس الأقوى الأسرع الأعلى عاشراً .

    كما إنك تجد في هذا الكتاب أن مدني صالح لا يقبل بالتلقين طريقة لتعليم الفلسفة ، بل الحوار ، كما لا يمكن لمعلم الفلسفة أن ينفع طالباً واحداً بها إذا لم يكن هو قد انتفع بها على صعيد السلوك والموقف من ناحية وعلى صعيد الفكر من ناحية أخرى ، وذلك لأن الفلسفة سلوك وأسلوب حياة وأنها طريقة ، فلا يقبل طالب الفلسفة من معلمها شيئاً إذا لم يكن معلمها قد انتفع بها واستفاد منها وطبّقها في حياته واتخذها طريقة له وأسلوباً في حياته .

ولتكن البداية من الذي نتفق عليه لا من الذي نختلف ، فأجلُّ وظائف الفلسفة هو انحسارها أزاء مد العلم .

كما  أنك  ستجد دعوى واضحة على أن الفلسفة ليست من عالم الكثرة بل إنها من عالم القلة ، فلمعلم فلسفة واحد يهتم بالتأسيس المتين خير من عشرات لا يعرفون عنها شيئاً ، ولطالب فلسفة واحد محب لها قادر على التتلمذ عليها خير من آلاف يساقون إليها جراً وعراً.

وستجد أيضاً في هذا الكتاب طريقة واضحة عند مدني صالح لتدريس الفلسفة مميزاً بين المداخل الخائبة والمداخل الناجحة ، كما أنه لا يتمنى أن يأتي أساتذة الفلسفة إليها من الاستشراق من التعصب والانغلاق .

وإنك تقرأ وتقرأ ستجد فيلسوفاً بكل معنى الكلمة وستجد عقلاً جباراً لا يمكن إلا أن تفتخر به ، وأسلوباً أخاذاً وهماً واضحاً وصدقاً منقطع النظير ، وإخلاصاً وأملاً وطموحاً وأمنية بأن تعلَّم الفلسفة وتُفهم وتُدرس بالشكل الذي يليق بها ، فعلى من يريد ذلك فعليه بهذا الكتاب .

وباستمرار يدعو مدني صالح إلى أن لا جدال في قضايا العلم ، وعلى أن الإنسان يجب أن نفهمه على أنه محكوم بعوامل بايولوجية وفسلجية وسايكولوجية ، بيئية واجتماعية ، وستجده مدافعاً وحريصاً على أن ندرب الطالب على الثقة بالنفس والإحساس بالتفوق ، وعلى أتخاذ مواقف حاسمة .

كما وستجد دفاعاً عن الأدب الراقي ، فلا أرقى من التعبير عن الفلسفة بالأدب الراقي ، والأدب كلام لكنه بأسلوب رفيع ورصين وممتع ونافع .

وستجد أيضاً دفاعاً عن الفلاسفة الذين نعرفهم والذين لم نرَ على شاكلتهم في الربع الأخير من القرن العشرين والذين منهم برتراند رسل وجان بول سارتر وجون ديوي وغيرهم ، كما لم نجد أحداً من الأدباء في هذا الربع الأخير من القرن العشرين على شاكلة تولستوي وبرناردشو وديستوفيسكي وفرانز كافكا وغيرهم . كما إنك ستجد موقفاً رائعاً وجريئاً ودقيقاً يتخذه مدني صالح من الأدباء الذين يعد بعضهم أعظم من كل الفلاسفة في مجال التحليل وإعادة التركيب النفسي والتوازن الاجتماعي .

وستجد كيف أنه يدافع عن معاناة المبدعين وعن حصتهم من الإبداع التي لم يلتفت إليها أحد والتي قد استفاد منها الجميع إلا مخترعيها ومكتشفيها .

    وستجد رأياً مهماً في الأدب الفلسفي ومقارنات مختصرة جامعة ممتعة مفيدة واضحة بين أفلاطون وأرسطو ، تحسم لك الأمر،  وستجد شرحاً رائعاً عن سقراط والسوفسطائيين تلخص لك كتباً وبحوثاً وتُغنيك عن قراءة غيرها ، كما إنك ستجد موقفاً مهماً من سارتر وأرسطو وستجد رأياً لحضور نيتشه وبرتراند رسل بين سقراط والسوفسطائيين ، ومع كل ذلك يعترف مدني صالح ويقر ((بأنه لا تخلص حرفة ومهنة من المتطفلين الذين يجعجعون ويتسربون إليها فيعيثون فيها ويمضون ويتلاشون كأن لم يكونوا)) ومن ألمه قوله ((إنك تعرف خلقاً كثيراً قد تبوؤا المنزلة وتقاضوا الأجر على ما يضر في العمل الثقافي والاكاديمي ولا نريد أن نضع في الرقبة خطيئة الإشارة إلى أنك تعرف خلقاً كثيراً قد تسلقوا بلا إعداد وبلا خبرة وبلا تخصص وتدافعوا بالمناكب وبالاكتاف ودفعوا أهل الخبرة والنباهة والاختصاص وجلسوا مكانهم في العمل الثقافي والأكاديمي ولا نريد إغاضة أحد بالإشارة إلى أنك تعرف خلقاً كثيراً قد بلغوا الحد الأعلى من امتيازات العمل الثقافي والأكاديمي وهم دون بلوغ الحد الأدنى من الإنتاج فيه)).

ويبقى مدني صالح مدافعاً عن حق المبدعين في كل ما يكتب ، فكم يبلغ حق المكتشفين والمخترعين في مجال الطب من ريع عيادات الأطباء ؟ وكم يبلغ حق الأدباء والشعراء من ريع المسارح ودور السينما والدراما التلفزيونية ؟ وكم يبلغ حق مكتشفي الميكرسكوبات من ريع عيادات التحليلات المرضية ، وكم يبلغ حق مكتشفي العقاقير من أرباح مصانع الأدوية؟ والخ الخ .

كما دعا مدني صالح في كتابه هذا إلى أن تكون للتربية حصة من الدرس الفلسفي ، لا بل واجب ، والتي منها أن لا تُلقن الأخطاء العلمية على أنها حقائق فلسفية ، فإن أخطاء أرسطو في العلم في وقتها ليست حقائق فلسفية ، فعلى معلم الفلسفة أن ينتبه لذلك وأن لا يلقن الطلبة أخطاء علمية قال بها فلاسفة على أنها حقائق فلسفية .

كما إنك ستجد في هذا الكتاب نقداً لسقراط وإنصافاً للسوفسطائيين ودعوة إلى قراءة تاريخ الفلسفة بحذر وبروية ، وفي الكلام عن السوفسطائيين عليك ببرتراند رسل وجون ديوي ووليم جيمس وسارتر وأوجست كونت ، فاطلب الفلسفة من البرجماتيين والوضعيين والوجوديين .

وستجد مدني صالح في هذا الكتاب ضد التربية الوعظية ، فالأخلاق من وجهة نظره لا تصلُح في النصح والوعظ ، وهو نقد للتربية السقراطية ، الذي يرى أنها لو عادت لبدأت بمعاهد اللاهوت وأخيلة الشعر والأساطير ، كما أنه دفاع عن السوفسطائية الذي يرى أنهم لو بعثوا لبدأوا التربية في المدارس الصناعية والمعاهد التطبيقية والجامعات التكنولوجية .

كما إنك تجده حاضراً وبقوة بين أرسطو وسارتر عندما ينقد أرسطو في نظريته للسعادة ، ويرفض البديل السارتري على أنها استبطان ذاتي متفلت .

كما أن الثقافة عنده لا تكون إلا مع أرسطو في الشعر والمسرح ، فهو خير بداية لكل ذلك ، فلا يمكن أن تكون ثقافة بتجاوز أرسطو في الشعر والمسرح ، لكنها لا يمكن لها أن تكون إلا بالخروج عليه في الوقت نفسه ، أي بتجاوز كل فلسفة أرسطو الطبيعية وجزء من ما بعد الطبيعة عنده والتي قد أسقطها العلم ، وفي كل ذلك تمكن مدني صالح من توظيف الأمثلة الشعبية لتبسيط الفكرة وتوصيلها للقارئ العام ، فاعرف نفسك عند سقراط يستخدمها الناس إما للتهديد أحياناً أو للمعرفة أحياناً أخرى أو للتذكرة والتنبيه .

كما إنك تجد في هذا الكتاب آراءً رائعة في فلسفة الفن والجمال وموقفاً نقدياً واضحاً وتبسيطاً وخلاصة وجمعاً لفلسفة الفن والجمال عند هيجل تقضي منه العجب العجاب .

وتجد فيه أيضاً دفاعاً عن هربرت سبنسر ودعا إلى تدريسه ، وأن يكون جزءاً مهماً من مناهج الفلسفة في الجامعات .

إنه إذن سياحة في تاريخ الفلسفة وفروعها ، سياحة مختلفة عن الكتابة الأكاديمية عن تاريخ الفلسفة وفروعها ، فيها وضوح وبساطة وجمع وتلخيص ، وفيها نقد وموقف ودعوة للأخذ وأخرى للترك وفيها نصيحة ثقافية مهمة جداً عن الذي تقرأه من الكتب ومن الفلاسفة والأدباء ، وفيها خطة لبناء مثقف بحق تلمس فيها دعواه المستمرة للاقتصاد الثقافي وعدم بعثرة العمر بقراءة ما لا يزيدك إلا جهلا وإيهاماً وتعقيداً وقشمرة من الكتب ومن الفلاسفة ومن الأدباء .

وبعد أن تنتهي من قراءة هذا الكتاب ستشعر بالتفاؤل وبالتعويل الكبير على الفلسفة وما يمكن لها أن تلعب من دور في حياة المجتمعات .

كل ذلك قمنا بجمعه وإعداده والتقديم له ليكون كتاباً في الدرس الفلسفي بين يدي القارئ ، وأنا على يقين أن هذا الكتاب بما يحتويه لم يقرأ أحد منه شيئاً من المتخصصين في الفلسفة  إلا القليل القليل منهم والذين لم يتسن لهم إلا قراءة جزء بسيط منه .

ومرة أخرى هذا وعد مني أنا كنت قد قطعته على نفسي أن أجمع وأعد وأقدم وأنشر كل ما كتبه مدني صالح من مقالات وبحوث متناثرة لم تُنشر في كتاب وأضعها في كتاب فيه وحدة هدف وموضوع ، راجياً أن يقرأه على أقل تقدير المتخصصون في الفلسفة .   

تقديم د. محمد فاضل عباس للكتاب


author-img
فيصل غازي مجهول

تعليقات

google-playkhamsatmostaqltradent