recent
أخبار ساخنة

معروف الرصافي والشخصية المحمدية

إن كانت هناك شكوك قد أثيرت حول صحة نسبة كتاب "الشخصية المحمدية" لمعروف الرصافي فهي قليلة جداً وتتعلق بنسبة بعض ما جاء في الكتاب لا كله.

معروف الرصافي

    وعلى أية حال فقد قامت دار الجمل بطبع الكتاب عام 2002، لكنه كان بحاجة إلى مقدمة أكبر من تلك التي كتبت، مقدمة توضح تفاصيل عن الكاتب والكتاب والنسخ المخطوطة وأماكن حفظها، إذ لم يُذكر في النسخة اسم المحقق الذي قام بتحقيق الكتاب، ثم ان النسخة موجودة بحسب ما ذُكر في إحدى مكتبات جامعة هارفارد من دون رقم. وقد انتهى الرصافي من تأليف هذا الكتاب عام 1933، وهو كتاب ضخم تجاوز عدد صفحاته سبعمئة وستين صفحةً.

لقد أثار هذا الكتاب ضجة في الأوساط المعنية بموضوعه، لما فيه من جرأة في تناول موضوعات حساسة تخص الإسلام وأهم شخصية فيه، وهي شخصية الرسول محمد. وقد منعت بعض الدول العربية أو الإسلامية بيع هذا الكتاب، وطالبت جهات دينية كثيرة بأن يُمنع تداوله. ولو أن الرصافي قد نشر كتابه في وقته لما كان هوجم كما يُهاجم المفكر في هذه الأيام، فما كانت موجة التكفير عالية كما هي الآن.

لقد اعتمد الرصافي كتب السير المعروفة، لاسيما كتاب السيرة الحلبية الذي كان الأكثر حضوراً من بينها. ولم يأخذ بكل ما جاء في تلك السير من دون نقد وتحليل، ورأى أن كثيراً مما يُنسب إلى النبي أو إلى شخصيات أخرى من خلق الرواة، أو من تلفيق الرواة وتزويقهم، وقد شك فيهم شكاً كبيراً، وقد استعمل العقل الناقد أكثر مما استعمل المصادر.

ليست مسألة الشك في الرواة وفي كتبهم وفي كل ما وصل إلينا من أشعار وأقوال مما يمتاز به الرصافي من غيره، فقد أثار طه حسين في كتابه "في الشعر الجاهلي" ضجة كبرى إذ شك في الشعر الجاهلي. لكن طه حسين كان عميقاً في الفكرة متحفظاً في الكلمات، بينما كان الرصافي جريئاً غير متحفظ قط، ميالاً إلى الإطالة ومناقشة جميع الجزئيات الصغيرة. وقد يستشهد طه حسين بمسائل كثيرة من ثقافته العربية والأوربية، بينما لم تكن استشهادات الرصافي إلا من ثقافته العربية الإسلامية. ولا أريد أن أقيم موازنة بين الكاتبين أو الكتابين، لأن موضوع طه حسين الشعر الجاهلي، وقد قال ما قال ونقد ما نقد من خلال فكرة مركزية كان يدور حولها، وكان في كتابه كر وفر وإقدام وإحجام، وكان أكثر قدرة على الإيجاز. أما موضوع الرصافي فقد كان شخصية محمد التي حاول أن يناقشها من جميع جوانبها، ولا أدري لماذا أطلق على الكتاب اسم "الشخصية المحمدية" ولم يقل "شخصية محمد"؟ إذ أن كلمة "المحمدية" صفة تصف شخصية ما، بينما لو أضيفت كلمة "محمد" إلى "شخصية" لكانت أنسب، وعلى العموم فإن هذا مما لا أقف عنده كثيراً لأن أهل اللغة أقدر على بيان هذا الاختلاف، وربما كان يقصد تلك الشخصية التي وصفتها لنا مصادر عدة وقد لا تكون كما وصفت.

تستطيع أن تصنف الرجلين تحت صنف الملاحدة، ولن تعجز من أن تأتي بأدلة كثيرة تثبت ذلك، أما إذا أردت أن تؤول ما قالاه فمن الممكن أن تُضم كتاباتهما إلى وجهة نظر نقدية في الدين والتاريخ لا ترقى إلى الإلحاد. ولكنهما كُفّرا، وليس في هذا غرابة، إذ قد يُكفر المرء على عشر معشار ما ذكراه، وهما عند كثيرٍ من الناس قائدان كبيران من قواد أهل النار، وإذا كان هذا الحكم حقاً فقد استحقا هذه القيادة بجدارة.

قال الرصافي إنه يكتب للحقيقة لا للتاريخ، فقد كان يحسب حساباً للتاريخ، لكنه فيما بعد أصبح لا يقيم له وزناً، فالتاريخ عنده "بيت الكذب ومناخ الضلال ومتجشم أهواء الناس، إذا نظرت فيه كنت كأنني منه في كثبان من رمال الأباطيل قد تغلغلت في ذرات ضئيلة من شذور الحقيقة فيتعذر أو يتعسر على المرء أن يستخلص من طيس أباطيله ذرات شذور الحقيقة"، فهو يكتب للحقيقة التي لا شريك لها عنده والتي حمدها في بداية كتابه.

ليس من السهل أن يُقال شيء عن شخصية كشخصية النبي من دون أن يكون للمفكر موقف من المقدس، وما كان الرصافي ينظر إلى النبي نظرة مقدسة ولا إلى أي شيء في التاريخ الإسلامي. أما ما ذكره من عناصر الكمال عند محمد فقد كانت مما يمكن أن يوجد عند النبي أو عند غيره من البشر، فمن عناصر الكمال التي ذكرها "عزم لا يرده راد، وتفكير عميق الغور بعيد المرمى، وخيال واسع قوي يكاد يقاوم الحقيقة بقوته، وطموح إلى العلى لا يعلو عليه طموح"، يضيف إليها "غزارة عقل وثقوب ذكاء". لكن الرصافي يرى أنه في هذه الناحية لا يفوق إلا المحيط الذي نشأ فيه والعنصر الذي هو منه، فعقليته لا تتجاوز في تفوقها إلا العقلية العربية في زمانه وبيئته. ولم ير الرصافي خرقاً في الشخصية المحمدية للعادة، يقول: "وإذا دحضنا ما جاء به الرواة من الأخبار الملفقة بما يكذبها من المعقول والمنقول ومن آيات القران لم نر في حياته ما يخرق العادة ويخالف سنة الله، التي لا تقبل التبديل ولا التحويل، أعني بسنة الله نواميس الطبيعة، بل نرى حياته كلها لم تكن إلا طبق ما تقتضيه سنة الله في خلقه".

 لقد درس تلك الشخصية وأسقط منها كل جانب ديني. وقد يُقال: وما الذي يبقى "للرسول" أو "النبي" إذا أسقطت الجوانب الدينية من شخصيته؟ لم يكن الرصافي غريباً في تفسيره هذا، فقد درسها من جانب نفسي واجتماعي وسياسي ولم تكن عنده فرضية دينية، وهذا ما فعله كثير من المفكرين في دراساتهم لشخصيات الأنبياء، تلك الدراسات التي تفسر كل شيء تفسيراً وضعياً، لا وجود فيه لإله أو ملائكة أو أي شيء آخر مما يُذكر في المنظومة الدينية.

(الصباح، العدد (418)، السبت 27 تشرين الثاني 2004).

author-img
فيصل غازي مجهول

تعليقات

google-playkhamsatmostaqltradent