recent
أخبار ساخنة

تقديم لكتاب مدني صالح بعد خراب الفلسفة

 د. محمد فاضل عباس

محمد فاضل عباس

    مدني صالح اسم يحتل مكانة بارزة في قسم الفلسفة في جامعة بغداد منذ أواسط الستينات وحتى وفاته عام 2007، مكانة لا أعتقد أن هنالك من يملؤها بعد مماته ولم يكن هنالك من ينافسه عليها في حياته، يشهد له التلميذ والأستاذ، القاصي والداني، المحب والكاره، الحاسد والعاذل بالكفاءة والإبداع بينما لا يحتاج هو لشهادة أحد إلا شهادة مدني صالح تاجاً يميزه عن الجميع.

    ثقته بنفسه لا حدود لها، صال وجال في الصحافة العراقية على وجه الخصوص، هذا لا يعني أن لا صولات له في الصحافة العربية لكنها لا تعد شيئاً إذا ما قارناها بصولاته في الصحافة العراقية، ترتقي به الجرائد والصحف والمجلات ودور النشر والجامعات، ولا يرتقي هو إلا بمدني صالح.

    عدد قرائه خارج الوسط الفلسفي عراقياً أكثر من قرائه في الوسط الفلسفي العراقي، ترك ضجيج المساجلات الصحفية والأدبية في بداية التسعينيات من القرن المنصرم بعد أن خاض معمعتها من رأسه إلى أخمص قدميه بينما لم نره يوماً يخوض في المساجلات الفلسفية خارج قسم الفلسفة، فلم نره قط في مؤتمر أو ندوة أو مجلس لا في داخل العراق ولا في خارجه كما لم نسمع بذلك، بينما لم نره يوماً قد تخلف عن أداء واجبه الأكاديمي في قسم الفلسفة، وأكاد أجزم أنني لم أره يوماً ما قد تغيب عن محاضرة من المواد المقررة التي كان يدرسها كما أنني لم أسمع بذلك.

     مدني صالح متهم من حساده أنه غير معروف عربياً وهذه حقيقة، كما أنه متهم من الذين لا يقيم لهم وزناً ولا يساوون في ميزانه الذي لا أدق منه وزن ريشة بأن كتاباته لا تخرج عن نطاق الأدب الذي منه المقامة والمقالة، كلها من الأدب إلى الأدب بعيداً عن الفلسفة كما يدعون، وإذا أراد أحد منهم المجاملة صنفها في الأدب الفلسفي، ويؤكدون أن مؤلفاته لا فلسفة فيها إلا كتابه (الوجود) الذي تبرأ منه مدني صالح متمنياً لو أن كتابه (الوجود) كان في منافع الثوم وفوائد البصل لانتفع به الناس أكثر من انتفاعهم ب (الوجود).

     إذن نحن هنا إزاء الرد على هذه التهم التي وجهت إليه، هذا إذا ما سلمنا غير مقتنعين وغير مؤمنين بأن كتبه التي منها (الغزالي ومناهج الارتقاء) و(بعد الطوفان) و(مقامات مدني صالح) و(مقامات برج المربد) ومئات المقالات وعشرات البحوث بأنها أقرب للأدب منها للفلسفة.

    مدني صالح أديب بارع وناقد متميز للأدب وللفلسفة ذو عبارة متميزة وجملة رشيقة غريبة مألوفة هذا مما لا شك فيه حتى عند حساده وأعدائه، لكن - مرة أخرى – يؤكد حساده وأعداؤه أن مدني صالح هرب من الفلسفة إلى الأدب إما لعدم تمكنه من الفلسفة أو لعدم حصوله على شهادة الدكتوراه في الفلسفة من كيمبردج.

    فضلاً عن اتهامهم إياه بابتعاده عن المنهج العلمي المتعارف عليه في الكتابة إلى جانب ابتعاده عن موجة الحداثة وما بعدها أسلوباً ومصطلحاً، لا بل البعض يتهمه بجهله التام وعدم مقدرته على مواصلة ما هو جديد في ميدان الفلسفة، الجديد الذي منه " البنيوية " و" التفكيكية "، الجديد الذي منه " الكيوسية " والزيغ الزماني، الجديد الذي منه " صدمة المستقبل وصدام الحضارات ونهاية التاريخ "؟؟؟ الجديد الذي ينبهر به الكثير ويقفون إزاءه منبهرين، حتى وإن كان الجديد غير مفهوم، لا بل أن عدم الفهم واللبس والغموض لا يمكن أن يعده هؤلاء إلا فلسفة، وصار عندهم الكلام الغامض المعقد الخالي من المعنى لا يمكن أن يكون إلا فلسفة، لا بل أن من يتحدث بوضوح وسلاسة واختصار وأن من يكتب فلسفة للأطفال موظفاً الأمثال والمواقف الشعبية لتوصيل الفلسفة إلى الجمهور بعد أن عجزوا عن توصليها حتى إلى طلاب الفلسفة، لا يمكن أن تكون كتاباته فلسفة وهذا ما سنأتي إليه في مشروعنا الذي أخذناه على عاتقنا ألا وهو: تقريب مدني صالح أكثر وأكثر إلى المهتمين بالفلسفة عراقياً وعربياً .    

    إذن - مرة أخرى - ما نحن بصدده في هذا الكتاب أن نثبت: أن مدني صالح ليس أديباً وشاعراً بارعاً وكاتباً في شؤون الفلسفة فقط، لا بل إنه فيلسوف لم ينجب العراق الحديث في أسوأ تقدير على شاكلته، فالقارئ في بلادنا سوف يقرأ في هذا الكتاب فلسفةً وتفلسفاً ولن يجد اجتراراً لقضايا الفلسفة، لا بل سيجد القارئ فيلسوفاً ويجد فلسفةً بكل ما تعنيه كلمة الفيلسوف والفلسفة من معنى. هذا من جانب، أما من الجانب الآخر فقد يتعب القارئ من متابعة هذه الأبحاث المتناثرة في المجلات والصحف وقد لا يتسنى له الوصول إليها، هذا إذا ما تمكن من معرفة مكان وزمان النشر، بينما هي الآن أصبحت بين يديه في كتاب لم يخلُ من وحدة الموضوع.

    هذه إذن أبحاث للأستاذ مدني صالح اتفقنا أنا وهو على جمعها وتصحيحها وتحريرها ونشرها في كتاب وكان مدني صالح حائراً في عنوان هذا الكتاب بين (في مهب العاصفة) و (بعد خراب الفلسفة) فوافته المنية قبل أن يرى هذه الأبحاث كتاباً فأخذنا على عاتقنا هذه المهمة واخترنا (بعد خراب الفلسفة) عنواناً لها، وجاء عنوان (في مهب العاصفة) ليتصدر أغلب عناوين هذه الأبحاث ولم تكن المسألة إلا قريبة كل القرب من رغبة المؤلف، لا بل كان راغباً كل الرغبة في أن تخرج هذه الأبحاث بهذا الشكل.

    جاء العنوان (بعد خراب الفلسفة) ليجيب على سؤال مهم كان يراود مدني صالح ويراودنا نحن مريديه وهو: ما الذي بقى للفلسفة بعد انحسارها إزاء مد العلم ونحن في القرن الحادي والعشرين، فجاء الجواب في هذا الكتاب الذي يرى مدني صالح فيه: لم يبق للفلسفة شيء بعد انحسارها إزاء مد العلم إلا أشياء وأشياء منها في فلسفة التاريخ وفلسفة الإدارة وفلسفة التصميم، ومنها في فلسفة الفن وفي وجودية التصوف وتصوف الوجودية، ومنها أشياء وأشياء في الحضارة والمدنية والثقافة ومنها أشياء في الاحتكار وفي الاقتصاد التربوي.

     كان مدني صالح لا يرى القضايا الفلسفية التي درسها في الأكاديمية وما زالت تدرس حتى الساعة إلا قضايا لا يمكن أن نعدها إلا من الثقافات الساقطة وظيفياً والتي منها (نظرية الفيض وتناهي جرم العالم، وكيمياء أرسطو وبايولوجيا أرسطو وفيزياء أرسطو) كلها أسقطها العلم والعلماء والذي منهم كوبرنيوكوس وغاليلو ونيوتن وأينشتين وهارفي ولا فوازيه وباستور، فجاء هذا الكتاب تجنباً لما هو ساقط وظيفياً ولما هو مكرور وتماشياً مع الجمع بين الفلاسفة واتحاد الفلسفات والاختصار والتلخيص وتلخيص التلخيص.

     مدني صالح دائم الدعوة للاختصار والجمع، فإنه يرى أن من الممكن أن تكون الفلسفة الإسلامية من ألفها إلى يائها في كتاب واحد صغير الحجم عظيم الشأن، الأمر الذي قام به ابن طفيل على أحسن وجه في كتابه (قصة حي بن يقظان)، وقام به الفارابي على أتم وجه في (آراء أهل المدينة الفاضلة)، لا بل أن مدني صالح كان يعتقد أن من الممكن أن تكون الفلسفة قديمها ووسيطها وحديثها ومعاصرها في كتاب واحد نافع ممتع مفيد، فكفانا نردد الساقط وظيفياً والمكرور من القضايا الفلسفية وعلينا أن نجنب الناس وأنفسنا الثقافات الساقطة وكل ما هو مكرور، وعلينا أن لا نلوك هواء وأن لا نجعجع بلا طحين.

    أراد مدني صالح في كتابه هذا أن يجنب الناس المصطلحات الصعبة والمتون المعقدة التي لم يستطع الكثير تجاوزها وهذه موهبة لا يؤتاها إلا ذو حظ عظيم.

    مدني صالح كاتب يخاف الله ويستحي من الناس وكاتب علّمه الله، لا يأكل إلا من قدامه ولا يلهج بما لا يعرف ولا يُستأجر لحساب أحد ضد أحد أو لجهة ضد جهة أو لقومية ضد قومية أو لمذهب ضد مذهب ولا يتغالب ولا يتدافع وينأى بعيداً عند قسمة الخيرات والمغانم بينما هو أحق بها من الجميع، مدني صالح لا يأكل ولا يلبس إلا من عرقه ومن عمله الشريف ومن حرائق الأعصاب، وإذا أراد مدني صالح أن يصطف فلا يصطف ولا نريد له أن يصطف إلا مع الجهابذة الأساطين الكبار الذين منهم: بيرتراد رسل وجان بول سارتر وبرناردشو، كبيرٌ في كل شيء، كبير في أدبه كبير في فلسفته كبير في أسلوبه ولغته كبير في حيائه وفي سلوكه، ولا يختلف اثنان على ذلك إلا الحاسدين له.

    وإذا كان لا بد من تقديم ومقدمة لهذا الكتاب، فبعد القراءة الجيدة المركزة المتمعنة له وجدنا أن لا مقدمة ولا تقديم لهذا الكتاب أفضل من الفصل الأول له الذي حمل الكتاب العنوان نفسه (بعد خراب الفلسفة)، ففي هذا الفصل تمهيد ومقدمة وخلاصة إلى حد كبير لأغلب الفصول الأخرى من هذا الكتاب، وهذه مقدمة بلغة مدني صالح وأسلوبه الرائع، فهل يوجد أرقى من هذه المقدمة وأبلغ من هذا التقديم الذي جاء بلغة وبلاغة وأسلوب مدني صالح؟؟ فالقارئ سوف يجد في هذا الفصل تقديماً وتمهيداً لفلسفة التاريخ والفن والتصميم والإدارة وأشياء وأشياء في الحضارة والثقافة والمدنية، هذا من جانب، أما من الجانب الآخر، فإننا قد وصلنا إلى قناعة مفادها: أن الشرح والإيضاح والاختصار لأغلب نصوص مدني صالح لا يزيد الأمر إلا تعقيداً ولبساً، فمدني صالح رائد البيان والوضوح والتلخيص والاختصار، وإذا كان لا بد من كلمة نقدم بها لمحتوى هذا  الكتاب فنقول: إن حاسة مدني صالح النقدية بدأت لديه مبكرة جداً وهو طالب في الدراسة المتوسطة سائلاً أساتذته عن الجدوى من البرهنة على المبرهنات بعد أن برهن وبرهنا وسيبرهن وسيبرهنون عليها ملايين المرات والتي منها البرهنة على توازي المتوازيات وتقاطع المتقاطعات، فإنه أدرك أن هذا العمل إذا لم يكن من الهدر التربوي فإنه من العبث والتسكع، إذ لا يبدو في الأمر أن يجيء يوم ويثبت عكس المطلوب إثباته، ونجد صرخة مدني صالح واضحة ضد الهدر التربوي الذي يمارس في تعلم اللغات الأجنبية في البلاد العربية عامة وفي العراق خاصة وذلك في الفصل الخاص في (كي لا تظل الثقافة مضعضعة تحت حوافر اللغات الأجنبية) عندما يصيح مدني متألماً ويصرخ: أيها القوم أنتم تهدرون من العمر أرقاه ومن الطاقة التربوية أرقاها بطريقتكم في تعليم اللغات الأجنبية في البلاد العربية عامة وفي العراق خاصة موضحاً وشارحاً الأسباب وواضعاً البدائل الكفيلة لتعليم اللغات الأجنبية، ونحن اليوم نضعها مجدداً أمام القائمين على أمور التربية والتعليم في بلادنا العربية بعد أن يئس مدني صالح حتى قال: إنك تصيح في فضاء لا هواء فيه أو كأنك تطبخ الحصى! ثم نجده يحاول تصحيح الفهرسة الثقافية في القرن العشرين بعد أن وجدها مقلوبة على الرأس وتمشي إلى الوراء ليحدد مفاهيم واضحة للحضارة وللثقافة وللمدنية وهذا سنجده أيضاً أكثر تفصيلاً في الفصل الخاص بالثقافة والحضارة والمدنية، ثم نجد خلاصة لآرائه في فلسفة التاريخ بعد أن فصَّلها في الفصل الخاص في مهب عواصف التاريخ الذي يرى فيه: أن لا بداية للتاريخ ولا نهاية له وأن لا جهة للتاريخ يتحرك منها وإليها، فالتاريخ يتحرك من جميع الجهات إلى جميع الجهات، وقد أخطأ كل من قال أن للتاريخ بداية وأن له نهاية ومنهم هيجل وفوكوياما، كما أخطأ كل من قال أن التاريخ يبدأ في مساره من جهة معينة وينتهي إلى جهة معينة أخرى ومنهم هيجل الذي تيقنا بخطأ رأيه عندما رأى العالم هزيمة ألمانيا وسقوط برلين على يد الحلفاء، مثلما سوف لن ينتهي التاريخ والعالم في إمبراطورية أمريكا وهذا ما يراه فوكوياما، والحقيقة التاريخية التي لهج بها مدني صالح: فقراء ضعفاء مغلوبون مقهورون مفلوكون يخدمون الأغنياء الأقوياء الغالبين القاهرين الفلاكة في السلم ويدافعون عنهم في الحرب، وهذه حقيقة لا خير ولا شر لا صواب ولا خطأ إنها حقيقة وأن التاريخ لا يدور ولا حركة له إلا حول محور الحرب التجارة الاحتكار والبقاء للأقوى الأسعد الأغلب الأقهر، ونحن لا نملك إلا الحلم الأمنية، نحلم بتاريخ يكبر رأس العالم الأديب الفيلسوف الفنان ويصغر بطن التاجر المرابي المحتكر ونتمنى قيادة حكيمة للتاريخ وأن لا يتحرك التاريخ وأن لا يتمحور إلا حول محور العمل للإنتاج واللعب للابتهاج.

    كما أنك ستجد في هذا الكتاب أشياء وأشياء في فلسفة الفن والإدارة والاحتكار والنقد كلها أصيل مبتكر نافع ممتع جميل لا عبث فيه ولا لغو ولا يمكن أن نعده إلا من الثقافة النافعة الممتعة الجميلة، ولا ننسى دعوته إلى وحدة الفلاسفة واتحاد الفلسفات كلها متعاونة على حل جميع المشكلات والصراعات والأزمات، فإن الفلسفات المعاصرة على وجه الخصوص كلها إنسانية تثق بقدرات الإنسان الحسية والذهنية وتقصده غاية لجميع قوى التاريخ وتعده لحياة أكثر أمناً وعافيةً وحكمةً وعدلاً وجمالاً، فلماذا إذن هي غافلة عن شروط وحدتها واتحاد فلاسفتها!!؟؟ وأن هذه الفلسفات جميعها نسبية تطورية تقبل من ديكارت الفصل بين مناهج الفلسفة وبين مناهج اللاهوت وتقبل من فرنسيس بيكن الفصل بين مناهج الفلسفة وبين مناهج العلم، فلماذا إذن تتجاهل أسباب وحدتها ولماذا هذه المسميات والخلافات!!؟؟

    فضلاً عن موقفه من المنطق الذي ستجده واضحاً في هذا الكتاب، فإن مدني صالح لا يرى المنطق إلا وسيلةً تقوي به حجتك وينصرك على خصومك إذا كنت قوياً غالباً قاهراً ولا يقوي حجتك ولا ينصرك على خصومك إذا كنت ضعيفاً مغلوباً مقهوراً، وأنه لا يصحح لك خطأً إذا أخطأت ولا يدلك على الصواب، ولو كان كذلك لصحح لأرسطو كيمياءه وفيزياءه وفسلجته وفلكه قبل مجيء كوبرنيكوس ولافوازيه وهارفي وغاليلو، وإذا قلت لمدني صالح: إننا لا يمكن أن نعرف: أن الشيء هو هو أو أن الشيء لا يمكن أن يكون موجوداً وغير موجود في آن واحد إلا بالمنطق؟ يجيبك: ليس من طبيعة الشيء أن يكون إلا هو هو وليس من طبيعته أن يكون موجوداً وغير موجود في آن واحد، وكل هذا من طبائع الأشياء لا بالمنطق ولا بالجدل.

    ألم أقل لكم لا أفضل من الفصل الأول الذي يحمل عنوان (بعد خراب الفلسفة) ليكون مقدمة وتمهيد لهذا الكتاب.

    وأخيراً إذا كان لا بد من الشكر فلا يمكنني أن أوجه الشكر الجزيل والتقدير إلا للدكتور عبد الجبار الرفاعي الذي اهتم كثيراً بنشر هذا الكتاب وللدكتور علي عبد الهادي المرهج الذي لولا متابعته وإلحاحه الكبير لما كُتب لهذا الكتاب أن يصدر بهذا الوقت على أقل تقدير فضلاً عن مراجعته للإعداد والتقديم وللدكتور فيصل غازي مجهول على مراجعته للإعداد والتقديم.

author-img
فيصل غازي مجهول

تعليقات

google-playkhamsatmostaqltradent